ما زلنا عند الآفاق الرحيبة التى انطلقنا إليها معاً، ولكننى سأطرح عليكم فى البداية سؤالاً، يبدو فى الظاهر أنه بعيد كل البعد عن موضوعنا، ولكنه فى الحقيقة هو الموضوع نفسه، ولكن ما هو السؤال؟ خذ يا سيدى: إذا كنت بارعاً فى علم الحساب الذى تلقيته فى سنين تعليمك الأولى فقل لى كم رقماً من واحد إلى عشرة يقبل القسمة على اثنين؟ لا تضحك من السؤال ولا تسخر من السائل ولكن أجب، المسألة بسيطة جداً أليس كذلك؟! بل إنه من فرط سهولة السؤال تستطيع أن تسأله لابنك الصغير وسيجيبك عليه فوراً، وأظن أن هذا السؤال قد وُجه إليك عشرات المرات من مُدَرستك «أبلة نبوية» أو مدرسك «يسرى أفندى» وأنت بعد صبى، والآن قل لى الإجابة، هل ستقول خمسة أرقام فقط هى التى تقبل القسمة على اثنين وهى الأرقام الزوجية؟ إذن فقد أصبت الخطأ يا عزيزى، لأن كل الأرقام تقبل القسمة على اثنين، لا تعترض ولكن تمهل وانظر للسؤال، فأنا لم أقل فى السؤال: ويكون الناتج رقماً صحيحاً، لو قلت هذا فإنهم خمسة فقط كما ذهب ذهنك، ولكن هذا الذهن الذى تعوّد على السؤال بصيغة المضاف إليها: «ويكون الناتج رقماً صحيحاً» أضاف تلك الصيغة لسؤالى فكانت الإجابة خمسة! ولكن ما معنى هذا؟ معناه أن العقل البشرى يضل كثيراً ويضيف من ثوابته ما لم يرد فى النصوص! يحدث هذا كثيراً لك، فصديقك الذى كان يجلس معك يروى عنك شيئاً لم تقله وإنما قلت مثله مع بعض الاختلافات، فتقسم أنت إنك لم تقل هذا الكلام حرفياً، ويقسم هو أنك قلته كما نقله! فأين كان الاختلاف؟ كان فى ذلك الذهن البشرى الذى أضاف دون أن يشعر ودون رغبة فى التحريف!
ومع تطور علوم النفس البشرية، أصبح هناك علمٌ متعلق بالشاهد الذى ينقل الخبر، وقد نشأ هذا العلم من أجل دراسة «مدى تطابق أقوال الشاهد الذى يشهد فى قضية ما مع الواقعة التى يشهد عليها» وقد انتهى هذا العلم بعد الكثير من التجارب العملية إلى استحالة أن يكون النقل مطابقاً، لذلك أصبح الإثبات القضائى يعتمد فى كثير من الأحيان على التسجيلات الصوتية والمرئية، وقد أرشدنى إلى هذا العلم رسالة دكتوراه كنت قد قرأتُها منذ سنوات لباحث متميز غاية ما يكون التميز اسمه «شهاد هابيل البرشاوى» ومن وقتها وأنا أغوص فى هذا العلم كالغواص الذى يبحث عن اللآلئ.
أخشى أن يكون كلامى هذا عويصاً ولكى أخفف من سماجته وثقل ظله سأنتقل بكم إلى التطبيق العملى حيث الحكايات والقصص، فبعد أن فرغت من قراءة رسالة الدكتوراه هذه سمعت من صديق أنه أجرى تجربة مع بعض أصدقائه ليقيس دقة «نقل الخبر» ففرحت بهذه التجربة وقررت إجراءها على أصدقاءٍ لى وكانوا سبعة، فكتبت فى ورقة الآتى: «مات جدى وأبى فى العاشرة وكان بيته مبنياً بالطين وله مدخنة، وورث منه أبى أرضاً عبارة عن قيراطين» وقلت للأصدقاء إننى كتبت أشياءً قد تبدو غريبة فى هذه الورقة، ولكننى سأقرأها بعيداً عنكم لأول واحد منكم، وسيقوم هو بنقل ما قرأه شفاهياً وبسرية للصديق الثانى، والثانى سينقلها للثالث وهكذا، إلى أن نصل للصديق الأخير الذى سيكتب فى ورق معه ما سيقال له من صديقنا قبل الأخير، فماذا كتب صديقنا الأخير؟ كتب طبعاً ما وصل إليه، ولكن ما هو الذى وصل إليه؟ هو ما يلى: «مات جدى وهو فى العاشرة من عمره!! وكان بيته مليئاً بالطين!!! وكان جدى يُدَخِن، وورث أبى أرضاً زراعية».
لك أن تضحك من هذا النقل الذى كان فى جلسة واحدة فى ساعة واحدة، فجدى مات وهو فى العاشرة من عمره، هكذا! فكيف تزوج إذن وكيف أنجب! وبدلاً من أن يكون للبيت مدخنة أصبح جدى مُدَخِناً! وبدلاً من قيراطين دون تحديد طبيعة الأرض أصبحت أرضاً زراعية دون تحديد مساحتها! وسأترك لك يا صديقى الحكم فى مدى دقة النقل، وإذا لم تصدقنى فلما لا تجرى هذه التجربة بنفسك مع مجموعة من الأصدقاء، ولكن اجعل الورقة تحتوى على عدد مناسب من السطور وكلمات تقبل أن تتعدد معانيها، واحرص مع ذلك كله على أن يكون الأصدقاء من أصحاب الذاكرة القوية، ثم قل لى النتيجة بعدها.
ما هذه المقالة التى «ما يعلم بيها إلا ربنا» عقول وأذهان، ونقل، واختلاف! هل هذه هى الآفاق الرحيبة التى وعدتكم بها، نعم هى، ولكننى أحببت أن أدرس معكم طبيعة العقل البشرى قبل أن ننطلق، والعقل أشقانا يا أخى، وأنت تعلم بلا ريب بيت الشعر «ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الجهالة ينعمُ» لذلك ولأن الذهن يا أخا العرب تختلط عليه الأشياء فقد طلب الله منا أن نكتب، فالكتابة هى التى ستحفظ الخبر، فإذا تداينا بدين إلى أجل معين فلنكتبه، أخذ الأستاذ «دسوقى» من الأستاذ «عكرمة» مبلغ ألف دينار على سبيل القرض الحسن، فليكتبا هذا القرض مصداقاً لقوله تعالى «إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» فإذا كان هناك عقدٌ بيننا فلنطبق كلام الله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وقال لنا الله سبحانه «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» وأقسم قائلاً «وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ» وحينما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كتب دستوراً ينظم العلاقة بين أهل تلك الدولة الناشئة.
ولكن إذا كان للكتابة هذه الأهمية، وكان الله قد فرضها فى الأموال والعقود، ألا يفرضها فى الدين؟ أيهما أولى بالكتابة، تلك الدنيا التى سنغادرها، أم ذلك الدين الذى ستستقيم به حياتنا وتصلح به آخرتنا؟! لن تختلف معى فى أن الدين هو الأولى، فإذا كان ذلك كذلك وأنت معى فيه، فهل لك أن تتعجب من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتدوين القرآن، ثم نهى عن تدوين الحديث! أظن أن علماء الأحاديث الشوامخ فى الأزهر وغيره لا يخالفونى فى هذا، ولكننى أكاد أراهم وهم يقولون: لقد فعل هذا يا ناصح فى بداية الدعوة لكى لا يختلط القرآن بالسُنّة، ولكن الرسول عاد وسمح بكتابة الحديث، ولك أن تعود إلى حديث أبى هريرة فى هذا الشأن يا من لا تعرف شيئاً عن العلم، ولكن كيف أرد على العلماء الشوامخ؟ فلننتظر الرد فى المقالة المقبلة.