لا توجد دولة فى العالم ليس فيها فساد، ولا يوجد أى نشاط إنسانى فى أى مكان لا يشوبه الفساد، هذا صحيح، ولكن الأصح منه أن الفساد فى مصر تحوَّل منذ سنوات بعيدة إلى مؤسسة ضخمة مستقرة، وآمنة إلى حد كبير من أى ملاحقة أو مساءلة، وتكاد غابة القوانين المعقدة والملتبسة توفر لجيش الفاسدين حماية نهائية من «العقاب» حتى فى حالة كشف بعض الجرائم الهامشية، وفى حالات كثيرة يفلت الفاسد الرئيسى من الحساب، ويدفع بآخرين -بينهم أبرياء- لينالوا العقاب بدلاً منه.
ومشكلة الفساد الكبرى فى مصر ليست فقط فى تعمد الجهاز الإدارى للحكومة عدم إتاحة الحقوق الطبيعية للمواطنين إلا للقادرين على دفع رشوة، وليست فقط فى تعطيل مصالح البلاد والعباد، والاستهانة الفاحشة التى يتعرض لها ملايين المواطنين فى كل أجهزة الحكومة، ولكن الخطر الأعظم يكمن فى هذا التسليم الكامل لدى الغالبية العظمى من المواطنين بأنهم لن يتمكنوا أبداً من الحصول على حقوقهم إلا بموجب رشوة أو وساطة، وأن لجوء المواطن إلى القانون أو إلى أجهزة الرقابة سيكون سبباً نهائياً فى حرمانه من الحصول على حقه، وربما ينتهى به الأمر إلى الزج به فى قضية، و«تستيف» كل أدلة الاتهام بشكل احترافى وإجرامى يصعب جداً على القضاء اكتشافه فى ظل ما نعرفه عن النقص الشديد فى عدد القضاة، والتضخم الرهيب فى القضايا المتراكمة أمام المحاكم.
وقبل يومين تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام أعضاء اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد وأعضاء هيئة الرقابة الإدارية بمناسبة الاحتفال بمرور نصف قرن على تأسيس هذه الهيئة المنوط بها تعقب الفساد، فإذا به يضع يده، دون أدنى مواربة، على رأس أفعى الفساد التى تتمثل فى سوء اختيارات القيادات لشغل المناصب العليا، مؤكداً «ضرورة اختيار قيادات تتمتع بدرجة كبيرة من النزاهة والشرف والتجرد».. فهل تكفى هذه القاعدة فى اختيار القيادات للقضاء على الفساد فعلاً؟!
الحقيقة أن مؤسسة الفساد فى مصر، بما تملكه من قدرة مذهلة على التلون والتخفى والتآمر، تجعل من هذه القاعدة مجرد «حلم جميل»، إذا لم تمتلك الدولة إرادة فولاذية فى مواجهة ظاهرة الفساد الذى ضرب جذوره عميقاً فى التربة المصرية واستشرى مثل «الغرغرينا» فى لحم وأوردة وأعصاب المجتمع، وأخشى أن أقول إن العثور على قيادات تتمتع بالشرف والنزاهة والتجرد بات الآن أصعب كثيراً من العثور على «إبرة» فى الصحراء، ليس لأن الشرفاء غير موجودين، ولكن لأن وسائل البحث والأجهزة المعنية بالبحث كانتا من أهم أسباب تخصيب الفساد فى التربة المصرية.. ولم يعد خافياً على أحد أن جيشاً جراراً من العاملين فى الأجهزة الرقابية ذاتها كان هو الساهر على حماية الفساد والفاسدين طيلة العقود الثلاثة الماضية، وأن بعضاً من كبار العاملين فى الأجهزة الرقابية لم يكن لهم دور غير الحصول على حصص ثمينة من غنائم الفساد.
والمؤكد أن إحراز أى تقدم فى الحرب على الفساد -وهو لا يقل خطورة وتخريباً عن الإرهاب- ليس مرهوناً فقط بالبحث عن «شرفاء»، ولكن الأهم من ذلك هو تنويع مصادر البحث عن قيادات وكفاءات تنفيذية تقود دولاب العمل اليومى فى هذه المرحلة من تاريخنا، وتقليب التربة بعيداً عن هذه الأجهزة الرقابية التى كانت شريكاً أساسياً فى اختيار كل القيادات التى تسببت فى تخريب الاقتصاد وإنتاج جبال المظالم التى دفعت المواطن العادى إلى الاعتقاد النهائى بأنه لن يتمكن من الحصول على أى حق من حقوقه إلا عبر منظومة الفساد ذاتها!
والخلاصة أن الرئيس تقع على عاتقه الآن مسئولية البحث -عبر وسائله الخاصة- عن قيادات مؤهلة أولاً، وخلّاقة ثانياً، وإذا وفقه الله فى الوصول لمنابع الكفاءات فى هذا البلد -وهى متاحة وبوفرة- فلن نحتاج بعد ذلك إلى جهد كبير لإشاعة مناخ النزاهة فى كل أماكن اتخاذ القرار وتقديم الخدمات للمواطنين.. لأن المناخ العام سيتغير إلى الأفضل، ولن يجرؤ مسئول على استخدام موقعه فى الإثراء الفاحش على حساب الشعب والإفلات من الحساب، كما كان يحدث تحت أعين وبمعاونة مأجورة من بعض كبار العاملين فى الأجهزة الرقابية.