نفى النبى صلى الله عليه وسلم عن نفسه صفة «الملك»: «قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَّسُولاً». وبعد وفاته لم يسعَ الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى البحث عن نظام سياسى ذى ملامح محددة تنتظم حوله الدولة المسلمة، بل انصرف جلُّ همهم إلى البحث عمن يخلف النبى، ليمثل دور كبير المسلمين، أو راعيهم فى شئون الدين والدنيا. وكان من المتصور ألا يأخذ أمر رعاية الدين معنى أكثر من الدعوة إلى الإسلام، دون الإضافة إليه أو القفز عليه. فقد أكمل الله دينه وأكمل رسالة نبيه قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
اكتملت رسالة النبى دون تحديد نظام سياسى محدد يستند إليه المسلمون، اللهم إلا ذلك المبدأ الذى نصَّ عليه القرآن فى سورة الشورى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ». ولو أنك راجعت كتب التفسير فسوف تجد أن هذه الآية الكريمة نزلت فى الأنصار الذين كانوا إذا أهمهم أمر قبل مجىء النبى إلى المدينة تشاوروا فيه. وتمنحك هذه الآية مؤشراً على أمرين، أولهما معروف، وهو أن القرار داخل الجماعة المسلمة ليس حكراً على أحد، وإنما بالتشاور بين الأفراد والتصالح على توجه معين، يسيرون جميعاً فيه، وثانيهما لافت للغاية وهو أن القرآن الكريم أعطى المسلمين إشارة -من خلال هذه الآية- بالعودة فيما يتعلق بتنظيم حياتهم السياسية إلى تجارب سابقة للإسلام أو لاحقة عليه. فقد امتدح نظام الشورى الذى لجأ إليه أهل المدينة قبل أن يدخلوا الإسلام. نعم، كانت الزعامة الفردية تلعب دوراً داخل المدينة، لكن ليس بنفس القدر الذى كان يلعبه هذا المفهوم داخل مكة، التى كانت تغلَّب الزعامة الفردية على أمر الشورى «دار الندوة». وتستطيع أن تتأكد من ذلك إذا راجعت عرض الزعامة الذى تقدم به أهل مكة للنبى حين عرضوا عليه «الملك»، حين توهموا أنه يريد الزعامة عليهم، وبإمكانك أن تستنتجه أيضاً من تلك الواقعة التى ترافقت مع فتح النبى لمكة، حين طلب منه عمه العباس أن يعطى أبا سفيان -زعيم مكة- شيئاً وهو يؤمِّن الناس، فما كان من النبى إلا أن قال: «ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن».
والمشكلة أن مفاوضات سقيفة بنى ساعدة التى شهدت ميلاد مصطلح الخلافة والخليفة -بعد وفاة النبى- كان يسيطر عليها المكيون، بفكرهم السياسى المرتكز على مفهوم الزعامة الفردية، وكان لديهم الوعى الكامل بأن جزءاً من هيبة الزعيم الجديد يرتبط بنسبته مادياً أو معنوياً إلى سلفه القديم، حتى ولو كان السلف هو نبى الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فكانت النتيجة أن تنازع الأمر فريقان: فريق باحث عن النسب المعنوى بأسبقية الإيمان والصحبة أو بإشارات من النبى تؤشر إلى أنه ارتضاه خليفة من بعده (فريق أبى بكر وعمر)، وفريق آخر يدافع عن فكرة النسب العائلى الصريح (فريق على بن أبى طالب). وفى الحالتين تم تهميش الأنصار أصحاب الفكر السياسى الذى بدا حينها أكثر نضوجاً!