ليس هناك ما هو أسوأ مما يجرى الآن على الأرض الليبية. تآكلت أعمدة الدولة وتناثرت أجزاؤها فى مشهد جنائزى حزين، لكن المثير للدهشة أن الأصوات المدوية لهذه الانهيارات السريعة والمتلاحقة كانت محاطة بصيحات التكبييير والتهليل «الله أكبر». تُسفك الدماء وتُقطع الأوصال وتخرب البيوت وتُهتك الأعراض وتتحول الحياة إلى جحيم، ويتم هذا كله باسم الله وعلى صيحات التكبيييير: الله أكبر. الحكومة انشطرت إلى حكومات، والجيش تحول إلى جيوش، والأسلحة تم توزيعها بالقسطاس بين القتلة والمخربين، البرلمان المنتخب لا يظهر إلا فى جنح الظلام وعلى الحدود البعيدة متخفياً عن الأعين التى تلاحقه على مدار الساعة، كل هذه الانقسامات جعلت من فكرة الدولة المركزية الموحدة شيئاً من الذكريات، قفزت إلى الأذهان فكرة الأقاليم الثلاثة؛ برقة وفزان وطرابلس الغرب من جديد، فبعد سنوات وسنوات من الدولة المركزية الموحدة تعود الأمور إلى بداياتها من جديد وكأن مفعول سايكس بيكو قد انتهى ونحن الآن مقدمون على اتفاقية تقسيم جديدة، بيد أن محنة جارنا الغربى تستفحل ساعة بعد أخرى، والانقسامات تتعمق، والخلافات تتجذر، والطامعون فى ثروات ليبيا على الثغر ساهرون.. مراقبون.. منتظرون، فكل ما جرى فى أفغانستان وكل ما يجرى فى سوريا والعراق لم يجعل الليبيين يتعلمون الدرس، فليبيا يتم تجهيزها كوطن مفروش لكل التكفيريين والإرهابيين من كل صوب وحدب وعلى مرأى ومسمع من الجميع، فمن أنصار الشريعة إلى السلفية التكفيرية إلى فجر ليبيا إلى الإخوان بأسماء عدة تسير الأمور! وكأنى رأيت هذا السيناريو من قبل! وكأنى أرى نفس المشاهد ونفس التصريحات ونفس صيحات التكبير، لكن الجديد هذه المرة أن مصر تكتوى بنار ما يجرى على الحدود الغربية. ليبيا تنزف ومصر تتألم، فكيف نستطيع أن نوقف هذا النزيف حتى يتبدد الألم؟ مصر من جانبها استضافت فى 25 من أغسطس مؤتمراً لوزراء خارجية دول الجوار لليبيا، وانتهى المؤتمر بمبادرة مصرية لحلحلة الأزمة الليبية تقوم على محاور أهمها رفض كل أشكال التدخل الخارجى فى الداخل الليبى والسير فى اتجاهين، الأول دبلوماسى تقوده مصر، والثانى أمنى تقوده الجزائر، ثم التقى الرئيس المصرى برئيس البرلمان الليبى وكلاً من وزير الخارجية ورئيس الأركان، حيث تم الاتفاق على الخطوط العريضة للسير نحو طريق الحل. الغريب فى الأمر أنه فى نفس الأثناء كانت ترتيبات غربية أمريكية تتم بخصوص الملف الليبى أيضاً لكن فى غيبة الأطراف الفاعلة على الأرض والتى تمثل الشعب والمصالح الليبية، الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا، أعلنوا أنهم يرفضون كل أشكال التدخل فى الشأن الليبى حتى لا تتفاقم الأزمة ولا تتوقف مسيرة التحول الديمقراطى! لن أعلق على مزحة التحول الديمقراطى على الطريقة الأمريكية.. لكن أمريكا كانت تلوح بهذه التصريحات فيما يبدو للإدارة المصرية بعدما تناثرت شائعات تفيد بأن مصر والإمارات قامتا بتوجيه ضربات جوية داخل مدينة طرابلس دون التنسيق المسبق مع الإدارة الأمريكية، لكن الإدارة المصرية كانت قاطعة وهى تنفى تماماً قيامها بأى عمليات عسكرية خارج الأراضى المصرية، وعلى كل فإن المشهد الليبى أصبح أكثر توتراً وارتباكاً، والوضع مرشح للتصاعد والتعقيد، ما لم تُتخذ قرارات وتتم تحركات خارج التوقعات وخارج إطار الرومانسية السياسية.. إنا لمنتظرون.