انزعج الكثيرون من التغير فى موقف وزارة الأوقاف من دعاة السلفية الكبار حين أعادت السماح لهم باعتلاء المنابر بعد أن كانت منعتهم من ذلك لعدة أسابيع. المؤيدون لعودة شيوخ السلفية يروجون للدور الذى يمكن لهؤلاء أن يلعبوه فى مواجهة أفكار داعش التى تحول المسلم المتدين إلى بندقية تقتل وسكين تذبح كل من خالفها. الحجة وجيهة، فخطر داعش وأمثالها داهم ومحاربتهم لها أولوية.
المعترضون من الجانب الآخر يقولون إن الفارق بين ما يقول به شيوخ السلفية المعروفين لدينا وما تقول به داعش ليس كبيراً، وأن دعاة السلفية يدفعون بأتباعهم إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من التطرف فى كراهية المخالفين، فيصبحون فريسة سهلة لداعش وأمثالها من السفاحين سفاكى الدماء. حجة المعارضين لها وجاهتها أيضاً، فالإرهابى القاتل لا يصبح هكذا بين يوم وليلة، والأرجح أنه ينتقل من مرحلة إلى التى تليها فى التطرف، حتى يصل إلى الحالة الداعشية وهى أقصى ما يمكن الوصول إليه فى هذا المجال. صاحب القرار محشور بين التهديدات والاعتبارات المتعارضة، العاجلة منها والآجلة، فيحاول الموازنة بين كل هذا آخذاً القرار الذى يظنه صائباً. وكلما وجد صانع القرار نفسه محشوراً قليل الوسائل والإمكانيات كان مضطراً للعب على المتناقضات والمناورة بين الخصوم والأطراف، على العكس منه عندما تكون لديه أدواته وموارده الخاصة، فعندها يكون قادراً على مواجهة خصومه جميعاً فى وقت واحد دون حاجة للاستعانة بأحدهم على الآخر.
المهم فى كل هذا أنه ما زال مكتوباً علينا أن تقوم السلطات الحاكمة فى بلادنا بوظيفة بوليس الأفكار، فبعض الأفكار المتداولة بيننا خطير وقاتل ومدمر للمجتمع والدولة، والمجتمع والثقافة فى بلادنا فيهما من العوامل الكثيرة التى تشجع على إنتاج هذه الأفكار، وحتى يكف المجتمع عن إعادة إنتاج الأفكار المسمومة القاتلة فإن السلطات الحاكمة ستكون مضطرة لتخصيص جزء من إمكانياتها لمراقبة الأفكار والعمل على القضاء على بعضها أو حظرها أو احتوائها أو توظيفها أو موازنتها ببعضها البعض حسب الظروف والإمكانيات.
إنها حالة نموذجية تتعارض فيها اعتبارات حماية المجتمع والدولة مع مبادئ حرية الفكر والاعتقاد والتعبير التى هى من أهم المبادئ المستقرة فى لوائح حقوق الإنسان العالمية. ورغم الصخب الهادر الذى يطلقه المدافعون عن حقوق الإنسان، فإنه ما من مرة حدث فيها مثل هذا التعارض إلا وكانت الغلبة والانحياز لمصلحة المجتمع والدولة. حدث هذا فى أمريكا وبلاد غربية عدة بعد الحادى عشر من سبتمبر، وحدث فى النمسا عندما وصل حزب الحرية اليمينى المتطرف إلى الحكم فى انتخابات نزيهة، ويحدث فى ألمانيا ضد الأفكار والجماعات النازية. وفى كل مرة من هذه المرات التى قامت فيها الدولة بملاحقة أفكار خطيرة وأصحابها بدا الاختيار منطقياً لأن أياً من حقوق الإنسان لن يكون من الممكن حمايته إذا تعرضت سلامة المجتمع وهيئته الحاكمة للخطر.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالمعضلة أعمق من ذلك بكثير. فإذا كانت ظروف المجتمع والدولة لا تسمح بالالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، فإن المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يضعون مبادئها فوق أى اعتبار آخر يتحولون هم وأفكارهم إلى خطر آخر يهدد المجتمع والدولة، فهم من ناحية يطالبون الدولة بالالتزام بمبادئ لا تسمح ظروفها بالالتزام بها، ومن ناحية أخرى فإنه عندما تعجز الدولة عن الاستجابة لمطالبهم فإنهم يفضحون ممارساتها ويضعفون من مكانتها فى العالم ومن شرعيتها لدى مواطنيها ولدى المجتمع الدولى، الأمر الذى يضع أفكار حقوق الإنسان نفسها فى قائمة الأفكار الخطرة التى يصعب إدراجها ضمن الحق فى التفكير والاعتقاد والتعبير، والتى يصبح على الدولة مراقبتها وإضعافها واحتواؤها وتوظيفها، كما تفعل مع أفكار الكراهية المتطرفة. وإذا كان أصحاب الأفكار المتطرفة يتعرضون للملاحقة، فإن شيئاً من هذا سيحدث حتماً مع أصحاب أفكار حقوق الإنسان أيضاً، وهو السبب الذى من أجله نرى بعضاً من النشطاء قابعين خلف القضبان يواجهون اتهامات متنوعة، فيما أصل المسألة أن تبنيهم الصارم لأفكار وأيديولوجيات تحتل حقوق الإنسان مكانة مركزية فيها يضعهم فى قائمة مصادر التهديد الواجب التعامل معها.
الضمير السليم لا يستطيع التسامح مع معاقبة الناس على أفكارهم، ولا يستطيع أيضاً أن يتسامح مع تهديد سلامة المجتمع والدولة، وهذا هو جوهر الأزمة الأخلاقية والسياسية التى يعانيها أصحاب الضمير منا، فهؤلاء لا يستطيعون التمتع بسلام النفس وراحة الضمير فيما الأفكار وأصحابها يتعرضون للملاحقة، ولا عندما يتعرض الوطن والمجتمع والدولة للخطر أيضاً. هؤلاء العقلاء هم إصلاحيون وسطيون ممزقون بين الحلم والواقع، وهم أروع من فى هذا البلد، فلا هم غلاظ القلب لا يأبهون لحقوق الآخرين وآلامهم، ولا هم مثاليون معزولون عن الواقع وتعقيداته لدرجة التفريط فى سلامة الوطن. على كتلة العقلاء هذه يقع عبء تطوير مساحة وسطى تخفف غلواء المتطرفين من الجانبين، وتؤسس لموقف وسطى توفيقى يستند إلى مبادئ أخلاقية صلبة وإلى تشخيص دقيق لمشكلات وقضايا الواقع. وعلى نفس القدر من الأهمية فإنه على كتلة العقلاء الوسطيين هذه تطوير سياسات واقتراحات عملية تضمن إلى أقصى قدر ممكن مصالح الفرد والوطن، وتسمح بتعميق وتوسعين النوعين من المصالح فى آن معاً، بعيداً عن التناقض والصراع غير القابل للحل الذى يفرضه علينا المتطرفون فى الجانبين.