لا بد من وضع التنمية الإدارية كأولوية قصوى وفى مكان القلب من أى استراتيجية حكومية تريد «الخروج» بمصر نحو «النهار» الذى تحلم به منذ قرون!
إن غياب فقه الإدارة الحديثة هو أحد الأمراض التى تعانى منها الأمة، ولا تزال البيروقراطية المقيتة هى الغالبة والمسيطرة على أغلب القطاعات الإدارية فى مختلف المجالات، ولا يمكن الفكاك من هذه البيروقراطية إلا بتفكير جديد من «خارج الصندوق».
إننا نعانى إدارياً معاناة غير مسبوقة فى تاريخنا، وفى تصورى أن سبب هذه المعاناة يكمن فى ثالوث الجهل وغياب الفقه:
1. جهل التفكير الاستراتيجى
2. غياب فقه الإدارة الحديثة
3. غياب فقه التنمية
ويجب ألا تظن أن تغيير هذه المنظومة أمر ميسر، حتى ولو كان المصلح جزءاً من هذه المنظومة؛ لأن القوانين واللوائح والنظم المسيطرة والخوف من المساءلة، ستجعل قلم المصلح يتردد ويخشى ويتعثر قبل أن يوقع على أى أمر يحقق مصالح الناس والمجتمع أو يخفف وطأة الروتين القاسية على عباد الله. ولا تظن أيضاً أن الوزراء لديهم قدرة سحرية أو أنهم لا يخافون، فقد رأينا بعد ثورة يناير كيف «تسمَّر» وزراء إصلاحيون فى مكانهم يخشون المبادرة ويترددون ألف مرة قبل التوقيع على أى ورقة خوفاً من محاسبة غير مسئولة يتعرضون لها بدون وجه حق، من محقق غير فاهم أو من صحفى ناقم على المجتمع أو إعلامى مبتز!
إن بداية الإصلاح الإدارى تبدأ من تغيير التشريعات التى شاخت فى معابد البيروقراطية، وتيسير اللوائح التى تكبل أى عمل، وقبل هذا وذاك لا مفر من تغيير عقلية المشرع وعقلية الموظف!
ومن عجائب عصرنا أن بعض بلدان العالم الثالث تحولت إلى نظام الحكومة الإلكترونية، لكن الموارد البشرية القائمة على توظيف واستخدام هذا النظام لا تزال تفكر بآليات العقل الرجعى للسيد «عبدالروتين»، ومن هنا نجد النظام الإلكترونى لا قيمة له بسبب البشر القائمين عليه، فهل يستطيع قائد العربة «الكارو» أن يقود «الرولز رويس»؟ تخيل معى لو أنك أعطيت مثل هذه السيارة الحديثة لرجل يعمل بعقلية قائد العربة «الكارو» ماذا ستكون النتيجة؟! سيحضر حماراً ويربطه بالسيارة «الرولز رويس» ثم يحركها عن طريق «الحمار»! ولا تستغرب من هذا المثل، فهذا ما يحدث فعلاً فى بعض بلدان العالم الثالث التى تطبق النظام الإلكترونى، لكن مَنْ يستخدم هذا النظام أو يقوم على إدارته أشخاص غير مدربين وبعقليات رجعية من الجاهلية الأولى!
والنتيجة النهائية أن مستخدم النظام لا يستفيد منه لأن «سائق العربة الكارو» يديره ببيروقراطية جامدة، وتحركه غريزة تعطيل مصالح العباد، ولا يجد قوة سلطته فى التيسير بل يجدها فى التعسير، يجدها فى المنع لا فى المنح! ومن هنا فلا يقل لى أحد إن النظام الإلكترونى يمكن أن يفيد المجتمع ما دام الحمار هو الذى يشده، وما دام العقل الرجعى هو الذى يقوده!
وهنا يطرح السؤال الآتى نفسه: هل الحداثة هى التى تصنع الناس الحداثيين، أم أن الناس هى التى تصنع الحداثة؟ فى تصورى أن الناس أولاً، لا بد من تغيير الناس، من تغيير العقول، وهذا لا يأتى إلا بإعلام جديد، وتعليم جديد، وفكر دينى جديد؛ {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11).
هكذا بدأ الحديث عن التنمية الإدارية، ثم عرج بنا إلى البيروقراطية والروتين، ومنهما إلى إشكالية الحداثة، ووسائل التغيير: الإعلام والتعليم والخطاب الدينى، هل هذا موضوع واحد أم موضوعات متعددة؟
فى الحقيقة أنها دوائر متعددة لموضوع واحد، وكلها دوائر متشابكة لا يمكن أن تصلح واحدة دون الأخرى، بل يمكننى أن أحدثك فى سياق تغيير العقل الإدارى عن «داعش» فى العراق وسوريا، والحوثيين فى اليمن، والميليشيات المسلحة فى ليبيا، والإرهابيين فى مصر، وبوكو حرام فى نيجيريا!
أتدرى لماذا تظهر هذه الموضوعات كلها، التى تبدو فى ظاهرها متفرقة، فى وعيى الشخصى على أنها موضوع واحد؟ لأنها كلها يربط بينها رباط واحد، هو الجمود الذهنى الحاكم للعقل. وإذا أردت أن تغير فى الإدارة ابدأ بتغيير العقول، وإذا أردت أن تمنع ظهور «داعش» جديدة ابدأ بتغيير العقول، وإذا أردت أن تغير الخطاب الدينى المتخلف ابدأ بتغيير العقول، وإذا أردت أن تقضى على البيروقراطية والروتين ابدأ بتغيير العقول.
وتغيير العقول يكون بتغيير الإعلام والتعليم وشيوخ الفتنة!
يقول الحكيم بوذا: «ما نحن عليه هو نتائج ما كنا نفكر به، العقل هو كل شىء، وما نفكر به سنصبح عليه».
نعم، العقل هو كلمة السر، إنه سر الاختلاف بين فرد وآخر، وسر الاختلاف بين أمة وأخرى، وسر التناقض بين «النظام» الذى يصنع اليابان و«الفوضى» التى تصنع الميليشيات الدينية المسلحة، وبين «الإدارة» فى ألمانيا و«الإدارة» فى بلاد «الواق واق»! وبين «الوحدة» التى تصنع الاتحاد الأوروبى و«التشرذم» الذى يصنع الشرق الأوسط، وبين «الخطاب العالمى الرحب» الذى حمله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وبين «الخطاب الطائفى المنغلق» الذى تحمله جماعات التطرف!