«الوطن» ترصد من «أربيل»: أوجاع نازحى الموصل.. وحكايات «سوق الرقيق»
«مثلما يسكن الشيطان فى التفاصيل، تسكن الأوجاع أيضاً، تطارد أصحابها فى نومهم وصحوهم».. ففى أربيل، لا تتوقف معاناة آلاف النازحين الهاربين من «ظلام داعش»، الذى أنهى نهار «الموصل» على أحوالهم ومعاناتهم من «الشتات» فى الوطن، والسكن فى خيام لا تحميهم من الحر، فلكل منهم مأساة وآلام من ليلة «النجاة» من قبضة الإرهاب، والنزوح لـ«المجهول»، ولكل منهم قريب أو قريبة، لم يحالفهم الحظ مثلهم، ليسقطوا فى يد «داعش»، لتباع النساء منهم فى سوق «باب الطوب» للرقيق، ويبقى مصير الرجال معلقاً بين القتل ودفع الجزية.
بين «ليلة وضحاها»، تبدل حال مسيحيى الموصل، وباتوا مطاردين داخل مدينتهم، فما إن دخل «الدواعش» المدينة حتى أعلنوا، عبر مكبرات صوت المساجد، إمهال المسيحيين 3 أيام فقط إما إعلان إسلامهم ونطق الشهادة، أو الاختيار من بين ثلاثة مصائر أحلاها مر، فإما القتل أو الجزية أو التهجير خالى الأيدى، وبالفعل هرب قسم كبير من مسيحيى المدينة، إلا أن الحظ لم يحالف البعض، فوقعوا فى يد «الدواعش»، الذين سبوا النساء وقتلوا الرجال، لكن شهادات «الناجين» من جحيم «داعش» تؤكد أن عدد السبايا من المسيحيات أقل بكثير من السبايا من الأقليات «الأيزيدية» والقوميات الآشورية والكلدانية والسريانية، وهم السكان الأصليون بالعراق، والأرمن وهم من الوافدين عليهم، وهكذا أصبح أصحاب الحضارة أسرى وسبايا.
وكشفت ناجيات من «رق داعش» عن تحويل التنظيم الإرهابى حى «باب الطوب»، الذى يعنى «باب المدفع»، إلى سوق للرقيق وبيع وشراء السبايا من النساء، وأكد النازحون أن «الدواعش» وضعوا «تسعيرة» لبيع النساء، فالجميلات يُبَعن بـ«عشر ورقات» أى ألف دولار، أما غير الحسناوات فيبعن بسعر أقل، مشيرين إلى بيع مسلحى التنظيم سيدة مريضة من الأقلية الأيزيدية بخمسين ألف دينار عراقى أى ما يوازى أربعين دولاراً.
وأوضح النازحون أن شيوخ وأغنياء الموصل من المسلمين يشترون المسيحيات والأيزيديات، لحمايتهن وتحريرهن بعد انحسار نفوذ «داعش»، مشيرين إلى أنهم لا يريدون أن يقعوا تحت المحاسبة أو المعايرة، بأن الأكراد أنقذوا بنات الموصل من السبى وأنهم وقفوا مكتوفى الأيدى.
وتصل الأخبار عن أوضاع النساء فى «السبى» للنازحين بأكثر من طريقة، إحداها اتصالات بعض المختطفات بأقاربهن، وقالت فتاة «أيزيدية» من تل عفر، لمعارفها فى اتصال هاتفى، بعدما تمكنت من الخروج بهاتفها المحمول، قبل انقطاع الاتصال بينهم، إن السبايا من المسيحيات والأيزيديات والشيعة على السواء، مؤكدة أنهن كلهن فى الهم سواء.
وتجولت «الوطن» فى مخيمات الشتات التى أقامتها حكومة إقليم كردستان، لاستضافة نازحى الموصل، والبداية كانت من «مخيمات عنكاوا»، التى أقامتها الحكومة، داخل الحدائق، وتطوع المواطنون الأكراد بتزويد الخيام بالمكيفات، للتخفيف على النازحين، خصوصاً مع ارتفاع حرارة الجو.
وافترش العشرات الأرض فى مخيمات «مار عودا» و«مار أشمونى»، لا تسترهم إلا خيام من الأقمشة، وفى إحدى الخيام، صادفت رجلاً عجوزاً انتفض واقفاً حينما علم أننى صحفية، طالباً أن يروى مأساته، واسترسل قائلاً: أنا «رعد عجلة»، خرجت من «قراقوش- حمدانية»، فاراً من «داعش»، ونجوت أنا وزوجتى وأولادى، فى حين وقع والدى وعمى وأبناء وبنات عمى فى أيادى الدواعش.[FirstQuote]
وأضاف: نتصل على تليفوناتهم المحمولة فيرد علينا الإرهابيون، ويكيلون لنا السب والتهديد والوعيد، ويختتمون حديثهم معنا قائلين: «ستسمعون خبراً عنهم قريباً»، وتابع الرجل بعد توقف قصير لالتقاط أنفاسه: «بناتنا سبايا ورجالنا يُقتلون، ماذا فعل الإعلام والحكومات لنا»، قبل أن يضيف راجياً: أسماء أقاربى «إلياس عجلة»، و«خالد عجلة»، و«سالم عجلة»، و«خضر عجلة»، و«جاكلين إلياس عجلة»، و«فيكتوريا إلياس عجلة». وفى مخيم «قاعة مرحباً» بعنكاوا، روت «عايدة حنا نوح» من «قراقوش- حمدانية» مأساتها لنا قائلة: امتثلنا لحكم «داعش» بالتهجير، وأخذت أولادى فى حضنى، وركبنا السيارة التى أحضروها لنا للخروج، وكنا فى آخر فوج يخرج من منطقتنا، وكان يضم 30 فرداً، وتابعت: احتضنت ابنتى الصغيرة التى لم يتجاوز عمرها الـ3 سنوات، وفجأة صعد أحد المسلحين للسيارة واختطف ابنتى من حضنى، فهرولت خلفه وتوسلت إليه، وركعت على ركبتى حتى يترك صغيرتى، إلا أنه صوب سلاحه على رأسى، وهددنى قائلاً: «لو بقيتِ خارج السيارة سأقتلك»، فاضطررت لترك طفلتى والصعود مرغمة للركوب بجوار زوجى الكفيف.
وتكمل السيدة: أوصلتنا سيارة «داعش» إلى سد «خازار»، وهناك أنزلونا فى المياه وأمرونا بالخوض فيها، وبالفعل اضطررنا للعبور من داخل مياه السد، التى يبلغ ارتفاعها 75 سنتيمتراً تقريباً، وعبرنا إلى الجهة المقابلة حيث استقبلتنا البشمركة بسيارات الإنقاذ، وتوقفت السيدة لبرهة قبل أن تستأنف متوسلة: «أعيدوا لى ابنتى لا أريد سواها».
وأكد «يوسف»، من أهالى قراقوش، الذى كلفه نازحو «قاعة مرحبا» بالحديث باسمهم، أنهم لن يعودوا إلى منازلهم إلا بعد الحصول على ضمانات وتعهدات دولية، أولها إعلان منطقة الموصل وقراقوش وسنجار مناطق منكوبة، حتى نتمتع بالحماية الدولية، وتساءل مستنكراً: بيوتنا نهبت، وكنائسنا تبكى علينا، ونحن نبكى عليها، فأين الحكومة المركزية؟ ولماذا لم تمارس دورها؟
وتابع الرجل: إنهم يعتبروننا لعبة سياسية، العراق ممتلئ بالكنائس من جنوبه إلى شماله، وسيف الشر الداعشى على رقابنا.. وقارن الرجل بين وضعه قبل وبعد سيطرة داعش على الموصل قائلاً: صرنا بلا وطن وننام بالشوارع والمزابل والمقاهى، مضيفاً: أنا شخصياً كنت أستثمر فى أربعة مليارات دينار عراقى والآن لا أملك إلا الجلباب الذى ألبسه.
الغضب من عجز الحكومة المركزية لم يقف فقط عند نازحى «قاعة مرحباً»، ففى مخيم «ماراشمونى»، قال «موياد ياندام» غاضباً: «البلد غنى، فلماذا ننام فى الشوارع والطرقات تحت الخيام، ولا توفر الحكومة منازل لنا؟». وتابع قائلاً: «كلنا فى الهم سواء، أخرجنا من منازلنا ونسكن فى الخيام»، مضيفاً: لسنا فقط -المسيحيين- مَن نعانى من المبيت فى الشوارع، لكن كل النازحين العراقيين.
وروت «أم ديانا»، نازحة من منطقة «خزرج- الساعة»، تقطن مخيم «مار عودا»، قصة خروجها من بيتها إلى المجهول قائلة: بدأت الأحداث بمناوشات بين داعش والحكومة، وفى اليوم الرابع لسيطرة مقاتلى داعش على المدينة، تفاجأنا باقتحام 5 مسلحين منزلنا، بعد أن فتحوا علينا الرصاص «كالمطر»، وكانوا مكشوفى الأوجه ونعرف بعضهم فهم من أبناء منطقتنا، وكانوا بالسجن. وأضافت: بعض جيراننا أرشدوا عنا، ومسلحو داعش أخذوا كل شىء، وحطموا كل ما صعب عليهم حمله، وكتبوا على دارى «ن» عقار ملك الدولة الإسلامية، ثم أخرجونا كلنا، مسلمين ومسيحيين، سيراً على الأقدام فى الساعة الثانية صباحاً. وأضافت: خرجنا من الحى الزراعى إلى قرية «بعشيقة»، وهناك استقبلتنا «البشمركة» بالسيارات، وكنا نقع فى الطريق من التعب، مشيرة إلى أن أسرتها اضطرت للنزوح مرتين الأولى من الموصل والثانية من قراقوش، بعد تمدد سيطرة داعش، لينتهى بها المطاف مفترشة الأرض فى حديقة عامة بأربيل.
والتقط «نورار إلياس» زوج أم ديانا، ضابط شرطة، خيط الحديث قائلاً: «اندلعت المواجهات بيننا وبين داعش فور وصولهم المدينة، وفى البداية، كانوا حوالى خمسة آلاف مسلح، لكن أسلحتهم كانت متطورة، وفى 10 يونيو، اقتحموا منزلى، وخيرونى بين التهجير وتغيير ديانتى، لكنى رفضت، وحالياً أنا مطلوب من داعش ولا أشعر بالأمان حتى فى أربيل».