(2) مصالح الطرف الأقوى دائماً تُقضى أولاً:
نقلت الصحف المصرية أن: الهيئة الفيدرالية للرقابة البيطرية والصحة النباتية الروسية، أعلنت أن مصر مستعدة للبدء فى توريد منتجات الألبان واللحوم والأسماك والمأكولات البحرية إلى روسيا.
لاحظ، عزيزى القارئ، أولاً أن الإعلان صدر من الطرف الروسى!
ولاحظ من فضلك، ثانياً، أنه باستثناء التهليل المخادع لبعض إعلاميى التطبيل (بالمناسبة، يُسمى تطبيلاً، لأن الطبل يصدر صوتاً عالياً ولكن جوفه خالٍ)، فلم تصدر كلمة واحدة موثوق بها عن أى مزايا ستحصل عليها مصر من الزيارة التى وصفوها بالتاريخية، باستثناء الادعاء الفارغ بأن مصر ستحصل على أسلحة فائقة التقدم لم تعطها روسيا حتى الآن لأخلص أصدقائها. وأغلب الظن أن هذه الادعاءات ستتبخر، كما تلاشت ادعاءات مماثلة بعد الزيارة الأولى للرئيس الحاكم إلى روسيا منذ شهرين. وظنى أن جيش مصر لن يحصل على سلاح متقدم من روسيا إلا لقاء ثمن باهظ لا يقل عن قواعد بحرية فى مياه البحار الدافئة، المتوسط والأحمر والخليج، التى يشتهيها الدب الروسى منذ عهد القيصر بطرس الأكبر.
ولاحظ من فضلك، ثالثاً، أن الغرض من استيراد السلع المذكورة من مصر هو تفريج ضائقة فى روسيا ترتبت على أزمة فى العلاقات التجارية مع الدول الغربية بسبب الخلاف حول أوكرانيا.
ولا حظ رابعاً، أن السلع التى أعلنت الأجهزة الروسية عن الاستعداد لاستيرادها من مصر هى سلع قليلة نسبياً فى الأسواق المصرية وأسعارها مرتفعة نسبياً. وبناءً عليه، فعلى المصريين الذين ما زالوا قادرين على الاستمتاع بهذه السلع أن يستعدوا لدفع أسعار أعلى فى نوعية أردأ من هذه السلع، فالطبيعى أنه سيسعى المصدّرون إلى اقتناص النوعية الأفضل من هذه السلع للحصول على أعلى الأسعار من تصديرها وللوفاء بمتطلبات أجهزة السلامة والرقابة الروسية، ولن يبقى للمصريين إلا «الفرز الثانى» منها وترتفع الأسعار لزيادة ندرة السلع، وهى قليلة، أصلاً وأسعارها عالية، كما ذكرت فى البداية.
وهكذا العلاقات الثنائية، بين البشر أو الدول، دائماً تُكيّف لمصلحة الطرف الأقوى فى الثنائى.
ولكن لا تبتئس كثيراً، فالأرجح أنه سيحصل الجيش المصرى على بعض الأسلحة القديمة نسبياً فى الترسانة الروسية، بتكلفة غير زهيدة حتماً، بينما ستبقى الولايات المتحدة تضمن لإسرائيل التفوق فى التسليح مجاناً، وربما يرافقها بعض القمح لخبز الغلابة وبعض الكافيار الروسى لمتعة علية القوم فى مصر.
(3) تصنيع السلاح محلياً هو سبيل المنعة والاستقلال الحقيقيين:
نقلت الصحف أن إيران كشفت النقاب مؤخراً عن صواريخ جديدة قصيرة المدى وطائرات دون طيار. ويُذكر أن إيران كانت قد أطلقت عام 1992 برنامجاً محلياً للصناعات الدفاعية يُنتج أسلحة خفيفة وثقيلة.
إن تصنيع السلاح محلياً هو سبيل المنعة والاستقلال الحقيقيين، بينما استيراد السلاح وقطع الغيار والذخيرة، ولو من مصادر متعددة، يورث الاعتماد على مصادر السلاح والتبعية لها.
والمعروف أن تصنيع السلاح صناعة متقدمة لها تأثير مضاعف على التنمية، فهى من ناحية تحفّز جهود البحث العلمى والتطوير التقنى، ومن ناحية أخرى، تُنعش عديداً من الصناعات المُزودة والمُكملة.
ولا غرابة إذن فى أنه، بخلاف إسرائيل، تعد إيران، على نطاق واسع، الدولة الوحيدة الصاعدة تنموياً وتقنياً فى منطقة «الشرق الأوسط»، لا سيما إن أخذنا فى الاعتبار تصميمها على اكتساب التقنيات النووية وتوظيفها، الذى حققت فيه شوطاً كبيراً من خلال -وعلى الرغم من- معركة دولية ضارية.
ولعل لنا فى العدو الأساسى -إسرائيل- عبرة، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة على استعداد دائم لتزويد الدولة العنصرية الغاصبة بجميع احتياجاتها من الأسلحة والذخائر، مجاناً، فإن صناعة السلاح والبحث العلمى والتطوير التقنى المتصل بها كانت دائماً على رأس أولويات إسرائيل، وأنجزت فيه بشكل باهر حتى إنها تشارك الولايات المتحدة فى بحوث وتجارب تطوير الأسلحة الأكثر تطوراً.
أما عندنا فى مصر، فاكتفينا بالاعتماد على المعونة العسكرية الأمريكية لمدة أطول من ثلاثين عاماً. ونسعى الآن للاعتماد على مصدر آخر من الاتحاد الروسى لن يتعامل مع مصر إلا كتاجر سلاح أو طامع فى ميزات استراتيجية، فهو لا يختلف الآن فى توجهاته السياسية كثيراً عن الولايات المتحدة، وهو بالتأكيد ليس الاتحاد السوفيتى، كما كان فى الستينات من القرن الماضى، المعادى للاستعمار والمناصر للتحرر فى العالم الثالث.
وإن وسّعنا نطاق البحث الجغرافى، تتعدد الأمثلة على دول صعدت، فى مجال التنمية وفى إنتاج السلاح محلياً (كليهما)، بينما تخلفت مصر، على الرغم من تفوق مصر عليها فى مراحل زمنية سابقة. أهم مثلين هما الهند والصين، ومصر كانت أفضل حالاً، على الأقل تنموياً، من كلتيهما فى 1950. ولكن بالطبع لا ننسى باكستان وكوريا، ومصر كانت أفضل حالاً من كلتيهما حتى 1960.
وهناك واقعة تاريخية، ذات صلة بهذه المناقشة، لا أملّ من تكرارها. فى مطالع 1967 اخترقت طائرة حاجز الصوت فوق القاهرة، لأول مرة فى التاريخ. المفاجأة أن هذه الطائرة كانت من إنتاج مشروع مصرى - هندى مشترك. وللعجب، فإن مساهمة الهند كانت تصنيع جسم الطائرة، بينما أسهمت مصر بالمكون الأعقد تكنولوجياً، أى المحرك. أظن أن هذا المشروع، ضمن عزم مصر على إنتاج السلاح محلياً، كان من أسباب التعجيل بضربة 1967، لكسر الجيش المصرى وإجهاض مشروع النهضة الناصرى. غير أن المشروع توقف بعد ذلك، بناءً على اقتراح أحد المشرفين عليه، الذى تحول بعدها إلى واحد من كبار تجار السلاح فى المنطقة العربية، وإلى عميل -يقول البعض مزدوجاً- لإسرائيل.