يقول المقريزى فى «إغاثة الأمة فى كشف الغمة»: «من تأمَّل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرَفه من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر فى مصالح العباد.. فعزمت على ذكر الأسباب التى نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادى بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع».
للوضوح، المقصود بالحكومة هنا مجمل السلطة التنفيذية أى رئيس الجمهورية والوزارة التى عيّنها، فى غياب مجلس نيابى يباشر مهمته الدستورية فى التشريع والرقابة على أعمال الحكومة. والوزارة لا شك تأتمر بأمر الرئيس الذى عيّنها ويحق له إعفاؤها، ولذلك لمّا قدمت له مشروعها لموازنة الدولة رفضه وطلب تخفيض العجز بها. ولم تجد الوزارة السنِية من حل لتخفيض عجز الموازنة إلا التشدد فى عقاب السواد الأعظم من المصريين المستضعفين والمطحونين أصلاً من دون أن تقترب ولو لذر الرماد فى العيون من ترشيد الإنفاق الحكومى، وأغلبه مُبذّر، وبعضه سفيه.
إن لم يكن فى مصر ظلم، فمثل هذه الحكومة ستؤسسه. ولكن حيث الظلم فاشٍ فى مصر فإن مثل هذه الحكومة ستجعله -لا محالة- أفدح وأبشع. ولكنها بفعلها هذا ستعجل بنهايتها.
تنفيذاً للوعيد الانتخابى للرئيس السيسى رفعت الحكومة أسعار مواد الوقود بنسبة تدور حول 75%. كما يتوقع أن تتضاعف أسعار الكهرباء خلال خمس سنوات. فقد قررت الحكومة رفع أسعار مواد الوقود منتصف ليلة 4/5 يوليو بزيادة تتراوح ما بين 40 قرشاً و٧٥ قرشاً للوحدة. فزاد سعر البنزين ٨٠ بنحو ٧٠ قرشاً ليصل إلى 160 قرشاً للتر، بزيادة 78%. كما زاد سعر لتر السولار بالقيمة نفسها ليصل سعره إلى 180 قرشاً للتر بزيادة 64%، فى حين ارتفع سعر بنزين ٩٢ بقيمة ٧٥ قرشاً ليصل إلى 260 قرشاً بزيادة 41%، وزاد سعر لتر بنزين ٩٥ بنحو ٤٠ قرشاً للتر، ليصل سعره إلى 6.25 جنيه، بنسبة زيادة 7% فقط.
وهكذا فإن أسعار وقود الغلابة ووقود غالبية وسائط النقل زادت بأعلى النسب، الثلثين أو أكثر، بينما لم يزد سعر وقود المترفين إلا بقدر تافه نسبياً.
وغنى عن البيان أن هذه الزيادة الضخمة فى أسعار وقود المستضعفين ووسائط النقل ستلهب أسعار جميع السلع والخدمات بلا استثناء وبشكل فورى وستعنى إفقاراً فورياً أشد للفئات المستضعفة فى المجتمع. وبينما كان رئيس الوزارة -بسذاجة مفرطة- يعقد الاجتماعات مع ممثلى التجار والعاملين بالنقل لمناشدتهم التعقل فى رفع الأسعار، كانت الأسعار تلتهب فعلاً خارج قاعات الاجتماعات المكيفة بمجلس الوزراء، فقد بدأ أصحاب الأعمال والتجار فى رفع الأسعار بمجرد الإعلان عن الزيادات فى أسعار الوقود وحتى قبل سريانها.
كيف نفسر هذه المفارقة من حكومة تتشدق بالحرص على مطالب الثورة الشعبية العظيمة وعلى رأسها العدالة الاجتماعية؟
ليس من تفسير إلا أن الحكومة تكذب كذباً أشراً عندما تدعى حرصها على العدالة الاجتماعية. والتفسير الثانى أن أعضاء الحكومة هم من المترفين الذى يحرصون على مصالحهم ومصالح الدوائر المحيطة بهم من الأغنياء المتنفذين ذوى الصوت العالى والمؤثر فى الحكومة، لاسيما من خلال وسائل الإعلام التى يملكونها. وليشتعل جحيم فقراء مصر أشد سعيراً، فهم لا يحسبون فى موازين سياسات القوة والبطش.
لكن يغيب عنهم أنه منذ يناير 2011 أصبح لمستضعفى مصر صوت جهورى فيما يحدث فى بلدهم ولن تستطيع أى حكومة مهما استكبرت أن تخرسه. لكن، للحق، لا يمكن أن نشمل الرئيس السيسى فى التفسير الأول. فالرجل لم يخدع أحداً وإنما هو ينفذ وعيداً انتخابياً أعلنه على الملأ، وقد أعذر من أنذر. ولكن خاب من لم يفقه الإنذار على الرغم من تحذير بعض العقلاء، واختار أن يأتى بمن سيعاقبه ليحكمه. ويقع الجرم الأكبر على من شنّوا وموّلوا حملات التراقص والتغنى لتصوير ترشحه للرئاسة على أنه استجابة لتكليف شعبى كاسح سيجلب الفرح والخير.
لا جدال فى أن الإفقار والعذاب الناجمين عن التهاب الغلاء نتيجة لهذه الزيادات الظالمة فى أسعار مواد الوقود سيؤجج حركات الاحتجاج الشعبى من غالبية فئات الشعب. وهذه مقدمة طبيعية لموجة كبيرة تالية من الثورة الشعبية آتية لا محالة.
وقد تكون الحكومة مطمئنة إلى أن آلتها القمعية الباطشة ستسحق هذه الحركات، كما حاولت سحق فصيل الإخوان الضالين وأنصارهم، وكل من سولت له نفسه الاحتجاج على قوانين وممارسات قمعية باطشة وظالمة.
وإن كان هذا ظنها فحتماً سيخيب. أولاً، لأن سحق الإخوان لم يفلح إلا فى امتلاء السجون بشريحة من أهل مصر واستجلاب سخط قطاعات متزايدة من الشعب على ظلم الحكومة فى مواجهته. وقطعاً لن تستطيع الحكومة مهما انفصلت عن الواقع أن تسجن غالبية من الشعب المصرى التى سيكون لها كل الحق فى الاعتراض على تصرفاتها الظالمة. والأهم أن هذه الحكومة الباغية ستكرر خطيئة تصرفات وأوهام الحكم التسلطى فى نهايات عهدى كل من محمد حسنى ومحمد مرسى، مستدعية موجة ضخمة من الثورة الشعبية تقضى على تلك الحكومة. بل الحق إن الظلم الذى أتته حكومة السيسى بهذه القرارات لم يجرؤ عليه أعتى الحكومات ظلماً قبلها ما يؤهلها لنهاية فاجعة تذهب بها غير مأسوف عليها.
فدروس التاريخ القريب تعلمنا أن الحكومات الظالمة تذهب أدراج الرياح، وأن الشعب يبقى ليسعى لاستكمال معركته فى بناء الحكم الديمقراطى الصالح سبيلاً لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر.
عسى يفلح هذه المرة!