كلما ازداد المخلوق البشرى إنسانية كان سعيه أكثر وأشد إلى العدل والحرية والحق والمساواة والخير والحب والسلام والجمال.. إنها قيم تسعى لكشف التشوهات والتناقضات والأكاذيب فى الحياة.
وهذه القيم لا تتعلق به وحده، بل تتعلق بالضرورة بغيره من الأفراد والجماعات والأجناس؛ لذلك فإن كل من يعمل من أجل هذه القيم المجردة يخرج من إطار الفردية إلى إطار الإنسانية عموماً، أى جموع الناس.
ولما كان ما هو قائم بالفعل فى هذه الآونة على أى مكان فى هذه الأرض لا يليق ولا يرضى تلك القيم العليا المجردة بنسب متفاوتة، بل يكشف عن وقائع وأحداث وأفكار ومعتقدات تفضح العوار والنقص الذى يشوبها ويلحقها ويعيبها؛ لذا فإن هذا المخلوق البشرى الساعى إلى الوصول إلى هذه القيم الإنسانية وبرفضه هذا العوار يكون أقرب إلى التمرد، سواء كان واعياً بتمرده ذاك أو لا يعيه وهو -على الأغلب- يعيه ويدرك أثره ويتحمل نتائجه كلها أو بعضها.
وتختلف درجات تمرد الأكثر إنسانية، بدءاً من فكرة مخلصة جريئة لا تتوخى إلا تلك القيم العليا المجردة، وهذه الفكرة الكلمة لا بد أنها مستجدة أو جديدة وشجاعة لأنها بالقطع تتماس أو تتقاطع أو تتصادم مع الأفكار والمعانى والخلاصات القديمة الثابتة أو المعتقدات العامة (أياً كان تصنيفها) الموجودة والراسخة منذ زمن.
ويمر التمرد بإعلان الغضب أو الرفض أو الثورة، وهى كلمة جموع الناس وتمردهم.
إن التطور ذاته وفى حقيقته ليس إلا رفضاً لشكل الشىء الموجود بالفعل ورفضاً لما يتعلق به من مضمون؛ فالفرد أو الجماعة لا يطلبون ولا يتحركون ضد ما يحقق سكونهم وراحتهم أو إشباعهم.. إن الآمال التى ينشدونها تعنى باختصار أنهم يسعون لتغيير الموجود فعلاً بصورته التى هو عليها. إن هذه الآمال التى ترتبط بتحقيق الإشباع لا بد أن تكون مقترنة بالوعى، والوعى الذى نقصده ليس هو التعليم؛ فقد يكون المواطن الأمى الذى لا يقرأ ولا يكتب أكثر وعياً بالمنفعة والضرورة والتطور لنفسه ومجتمعه وبلده من متعلم حاصل على درجة علمية، ولكنه أمر قليل على كل حال، ومثال على ذلك الفنان الشعبى الذى لم يتلقَّ تعليماً ولكنه استوعب مجال عمله ووعى ضرورات التطور والمرحلة فطوّر شكل ومضمون العمل وأثره.
التطور إذن هو خروج عمَْا هو قائم وتغيير فى شكله، وبالتالى فى مضمونه ومعناه وأثره، وهذا التطور فى أى مجال من مجالات الحياة لا يأتى إلا برفض القديم أولاً ثم بفعل الجديد ثانياً.
لا تطور دون تمرد فى حقيقة الأمر.
لم تتطور فنون ولا علوم ولا آداب ولا مجتمعات دون تمرد أبداً. ولا تمرد دون حرية أو خروج بأى طريقة كانت على المنع أو الكبت أو القمع والاحتيال عليهم. إن منع الحرية يعوق التطور ويؤخره ويحد منه ويوقف الوصول إلى المستطاع منه.
إن الجديد الذى يحدثه التطور لا بد أن يجلب الدهشة والرضا والإعجاب والراحة والسعادة.
لا يمكن كأمثلة تجاهل أو إنكار أن راحة الإنسان وسعادته بتطور وسيلة المواصلات من الحمار إلى الحنطور إلى السيارة، وسعادته بتطور الرسم إلى سينما وسعادته بتطور العقاب من جلد إلى حبس وسعادته بتطور المجتمعات من قمع وديكتاتورية إلى حرية وديمقراطية.
ولهذا، فمن المؤكد أن التمرد الذى يحقق التطور لا بد أن ينتج السعادة والراحة للإنسان وللشعوب فى نهاية الأمر.
فإذا كان الأمر كذلك فلِم يعوق البعض، خاصة بعض السلطات، هذا التطور؟
ربما كانوا لا يريدون للأفراد أو الجماعات سعادة مثل طبع بعض الدينيين والسلطويين وربما كانوا لا يشعرون بالوعى الذى أشرنا إليه، خاصة مع تعليم يغلق العقول ويحفظها ثابتة وربما تعارض التطور مع انتفاعاتهم وأشياء أُخَر.