بسبب العدالة، اختار الأقدمون فى اليونان أن يكون «كيوبيد»، إله الحب، أعمى، حتى يطلق سهامه على البشر دون اختيار ولا تمييز، فالحب حق للجميع وليس للقادرين عليه، وللسبب نفسه اختار الأقدمون نحتاً لامرأة معصوبة العينين تمسك بيدها ميزاناً لتكون رمزاً للعدالة، العدالة التى لا ترى سوى الحق ولا تجامل سوى القانون ولا تنافق سوى الخير ولا تكيل بمكيالين، ميزان واحد للجميع.
كانت العدالة دائماً عمياء، لكنها فى بلادنا مبصرة، مفتوحة العينين، تجيد الفرز والانتقاء، تمنح نفسها لمن يملك القوة والمال والنفوذ. وعلى الرغم من قيام الشعب بثورتين، كانت الأولى ترفع شعار العدالة والثانية ترفع شعار الهوية، فإن ما جرى بعد الثورتين لم تكن له أية علاقة بالعدالة، بل كان مزيداً من الطعنات، ربما لكى يبقى الوضع على ما كان عليه، بل إن الجهات التى تفصل فى شئون العدالة ثم تراقب تطبيقها صارت تحمل الآن رخصة دائمة لهتك عرض العدالة، وتعايرنا دائماً بأنها التى وقفت فى وجه الإخوان أو بأن رجالها يدفعون من حياتهم ثمناً لوقوفهم إلى جانب الشعب، وأقصد تحديداً مؤسستى القضاء والشرطة.
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويُسقط نظامين لكنه يفشل فى وقف نظام التوريث المشين فى تعيينات القضاء، ويفشل فى إسقاط مبدأ حرمان أولاد الجارية الفقراء من دخول النيابة العامة؟
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويسقط نظامين، فتأتى بعدهما أحكام بمعاقبة متظاهرين بالسجن سنوات أكثر من التى يعاقَب بها قتلة وإرهابيون؟
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويسقط نظامين، فتعود مؤسسة الشرطة إلى عنجهيتها القديمة وجبروتها وسلطويتها، وتعايرنا بدماء شهداء الوطن من رجالها؟
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويسقط نظامين، فلا يهتم الثوار المطالبون بالعدالة إلا بأصدقائهم جيكا ومينا والحسينى والجندى والـ11 وردة الذين فتحوا فى جناين مصر، تاركين أكثر من ألف شهيد فى طى النسيان، حتى حق إكرام الشهيد يخضع للخيار والفاقوس.
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويسقط نظامين، فتواصل الدولة رصف طرق الأحياء الراقية وإمدادها بالمرافق وترك الفقراء فى غبارهم وحواريهم وجوعهم وعطشهم وظلامهم، وتواصل الشرطة حماية المنتجعات وترك الفقراء تحت سيطرة البلطجية؟
ما وجه العدالة فى أن يثور الشعب ويسقط نظامين، بينما لا تزال فريضة العدالة غائبة، وإذا حضرت فإنها لا ترحم، وإذا حكمت فإنها تظلم؟
فى اعتقادى أن مستقبل مصر لن يأتى بفضل مشروع قناة السويس الجديدة ولا مشروع الساحل الشمالى الجديد، المستقبل لا يأتى دون عدالة تضمن الحق دون تمييز.