الدستور الديمقراطى الحقيقى يستهدف إرساء دولة القانون والمؤسسات، ويمهد الطريق أمام ظهور حكومات وطنية منتخبة بإرادة شعبية ومقيدة بالدستور والقانون وتعمل للصالح العام ويمكن محاسبتها وإقالتها. هذه المعادلة لن يكتب لها النجاح، بعد مشيئة الله، إلا بوجود أحزاب سياسية فعّالة، فالأحزاب هى التى تتنافس فى الانتخابات وتشكل الحكومات.
ولهذا، وفى ضوء الخبرة المصرية قبل وبعد ثورة يناير، وفى ضوء الخلافات التى تشهدها معظم الأحزاب، ولتجنب أمراض الشخصنة والعشوائية والارتجالية، بل ولمعالجة عيوب الممارسة الحزبية فى كثير من الدول الديمقراطية، وبناء نموذج مصرى جديد- يكون من الضرورى الاهتمام بنوعية الأحزاب المنشودة فى مصر. لدينا ثلاثة أهداف تحتاج إلى نصوص دستورية وقانونية وضوابط وآليات (وليس قيودا) لتنظيمها.
أول الأهداف فعالية الحزب، فللأحزاب وظائف محددة حتى تكون فعالة؛ أولها: وظيفة التمثيل المنصف لفئات المجتمع والطابع الاندماجى للحزب والبعد عن الإقصاء، فالأحزاب مؤسسات سياسية تعمل للصالح العام للمجتمع كله، وتسهم فى دمج فئات المجتمع المختلفة وليس عزلها عن بعضها البعض كما هو حادث عندنا. بجانب وظائف أخرى أهمها: إعداد الكوادر والقيادات والتثقيف السياسى وتجميع مطالب المجتمع والتعبير عنها فى برامج سياسية.
الهدف الثانى هو الطابع السياسى العام للحزب، فالحزب مؤسسة سياسية، هدفه سياسى وهو وضع برامج سياسية عامة تستهدف الصالح العام للمجتمع وليس مصالح فئة ضيقة، وتستجيب لأولويات المرحلة وللأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. كما أن وسيلته سياسية سلمية وهى خوض الانتخابات للحصول على أكبر عدد من المقاعد بالبرلمان حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه. وتوفر الديمقراطية منظمات أخرى لخدمة المطالب الفئوية والخيرية والدعوية كمنظمات المجتمع المدنى والأهلى وغيرها.
الهدف الثالث هو ديمقراطية الحزب من الداخل، أى مراعاة عدة أمور فى إدارة الحزب، أهمها أن أعضاء الحزب هم مصدر السلطة وليس رئيسه أو هيئته العليا أو أى فئة أخرى خارجه، وتوزيع السلطة بين مستويات مختلفة -اعتماد آلية الانتخابات الداخلية لاختيار قادة الحزب والمسئولين، وضمان دورية الانتخابات لإتاحة التداول السلمى للمناصب- والتقيد بالنظام الأساسى للحزب ولوائحه الداخلية، ومساواة كل الأعضاء أمامها لمنع انفراد شخص أو عائلة بالحزب -شفافية الإدارة المالية للحزب- وضمان حرية التعبير والحوار والشفافية والوقت الكافى فى وضع برامج الحزب، لتخدم حقيقةً المصلحة العامة للمجتمع وليس مصلحة فئة معينة -عدم الجمع بين سلطة وضع اللوائح والأنظمة داخل الحزب وبين سلطة التنفيذ- ووجود أنظمة رقابية وآليات لإدارة الاختلاف والفصل فى المنازعات ومساءلة المقصرين وفرض الجزاءات.
ولتحقيق هذه الأمور فى مصر، نحتاج إلى العمل على جبهتين: جبهة العمل الدستورى والقانونى، الذى يضبط العمل الحزبى ولا يقيده، فبجانب النص الدستورى بأن للمواطنين حق تكوين الأحزاب بالإخطار نحتاج إلى نصوص دستورية وقانونية مكملة وآليات ووسائل محددة لتنفيذ الأهداف الثلاثة، مثل إسناد الإشراف على الانتخابات الداخلية للأحزاب للمفوضية المستقلة للانتخابات، ووضع محفزات لدمج الأقليات والشباب والمرأة كاشتراط تمثيل هذه الفئات بالمواقع القيادية وبقوائم المرشحين للانتخابات أو منح إعفاءات ضريبية أو إعانات مالية لمن يقوم بهذا. ونحتاج ضمانات تكفل سلمية ومشروعية وسائل الحزب وتقيده بالقواعد، لمنع العنف وشراء الأصوات واستخدام المنابر والمناسبات الدينية ومبانى الدولة فى الدعاية الانتخابية، وإسناد مهمة النظر فى مدى تجاوز الحزب ذاته الدستور إلى الجمعية العمومية للحزب أو للمحكمة الإدارية العليا..
أما الجبهة الثانية فهى إعداد القيادات والكوادر والتثقيف السياسى، وهنا يحتاج كل حزب إلى برامج للتنشئة الاجتماعية والسياسية ومناهج تثقيفية تغرس مفاهيم المواطنة والتسامح والتعددية والتلاحم الاجتماعى وثقافة الاختلاف، وبرامج حقيقية لتكوين الكوادر وتعزيز قيم الاهتمام بالعمل العام والشعور بالمسئولية العامة وأهمية المشاركة السياسية بعد سنوات من فقدان الثقة فى السياسة والسياسيين.
الأحزاب تنشأ نشأة واقعية وبالإخطار فى كثير من الدول، إلا أن الدول حديثة العهد بالديمقراطية لا تتردد فى وضع القوانين التى تضمن فعالية الأحزاب وديمقراطيتها، فلا مكان للنوايا الحسنة وصدق نوايا مؤسسى الحزب أو حتى سمو رسالة الحزب ومرجعيته عند أصحابها. التنظيم أول خطوات النجاح وخط الدفاع الأول ضد اختراق الأحزاب أو تفجرها.