من يترك امتيازاته التى يحظى بها دون غيره طواعية أو إحقاقاً للحق أو امتثالاً للعدل وإعمالاً للمساواة؟ من وكم فى رأيكم من الناس يفعل ذلك وهو يملك قوة القرار وقوة تفعيله؟ من يترك امتيازات مالية ومعنوية وسلطوية ولا يقبض عليها لنفسه ولأبنائه وأحبابه من بعده إن تيسر له ذلك وتمكن من فعله؟
هل تنقصه الحجج والبراهين والتبريرات واللوائح والشروط والمواصفات التى يسطرها هو وزملاؤه من الامتيازيين لمنع غيرهم من العمل فى المجال الذى حصنوه؟! يتم ذلك اليوم بالأوراق والأقلام والأختام وبحماية البيروقراطية.
قديماً، كانت الطائفة تمنع دخول الغرباء فيها، مستخدمة أشكالاً مختلفة من القوة والعدوان، ولا تقبل إلا من ترضاه من خارج أعضائها الذين هم عائلات ووارثون بعدما يدفعون معلوماً. وكانت الدولة تقبل ذلك، وكان زعماء هذه الطوائف من أركانها المساندة، ومع تطور المجتمعات صناعياً والحاجة لمزيد من العمال والصناع وتفعيل مبادئ المساواة والحرية، صار ممكناً أن يتحرك المواطن من طائفة لأخرى دون أن يتعرض لعواقب وخيمة. لم تتخلَّ هذه الطوائف عن احتكاراتها وتحصيناتها هكذا من تلقاء نفسها، وإنما خضعت له بعد صراع واضطرت إلى قبوله مرغمة بقوة الدولة التى تنامت قوتها وتمركزت سلطتها على الطوائف والأفراد وصارت تستمد أكثر شرعيتها من حماية الأفراد من بطش غيرهم ومن تدبير حقهم فى العمل الذى تحتاج هى أيضاً إليه وتسعى لتنميته لتحصل على المزيد من عوائده لتستمر فى تعظيم قوتها ومركزيتها، ثم تطور الحال إلى إعانة هؤلاء المواطنين الذين لا يجدون عملاً.
يعتمد هذا الدور للدولة على درجة وحداثة تطورها السياسى والديمقراطى. طبيعة الدولة تلعب دوراً فى تحقيق العدل لتشغيل مواطنيها.
فالدولة الدينية لا بد أن ترفع من طائفة الدينيين على سائر المواطنين وتميز أقلياتها وتحرمهم من أى معايير للمساواة كمواطنين، بما فيها حق العمل، والدولة الديكتاتورية لا بد أن ترفع من أولئك الذين يدعمون سلطتها، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات تساعد فى القمع وإخضاع المواطنين والتنكيل بهم.
مثل هذه الدول مضطرة بطبيعة توجهاتها وتكوينها لأن تقدم تنازلات ومنافع (متبادلة) لكل المؤسسات المتسلطة التى تنفعها ضد مواطنيها وتسمح لها وتشارك معها فى نسف مبدأ المساواة بين المواطنين ليسود مبدأ «المحسوبية والموالين والأقارب والموثوق فيهم أولى وأفضل وأنفع»، مخالفة بذلك الدستور والقانون والأعراف العالمية الحديثة.
هذه نوعية لدول وحكومات تجاوزها الزمن والواقع فى البلاد المتقدمة وبانت نتائج خيباتها وفشلها واضحة للعالمين وبالأرقام. وماذا ننتظر من دول لا تختار الأصلح والأكفأ والأعلم والأذكى فى وظائفها وأعمالها لأنه مثلاً ابن فقير أو ابن جاهل، وكأنهم يختارون أباه لذاك العمل؟
هؤلاء قوم ينعمون ويضمنون المستقبل لأولادهم ولا يشعرون بالأزمة التى يعيش فيها الناس وحاجتهم إلى المتفوقين والنوابغ لحل أزمة البلاد المتفاقمة فى كل المجالات.
البلاد فى حاجة إلى كل ممكن ولو كانت الشياطين إذا كانوا سيخرجونها بذكائهم من كبوتها، لكن مؤسسات فى مجالات مختلفة أنشأت إقطاعيات وتدعم تحصينها من سائر المواطنين الأكثر كفاءة بدعوى أنهم الفقراء أو الذين لا قربى جيدة لهم تسعى لإبقاء الأزمة وإلى إثارة الإحباط والأحقاد وإحساس اليأس والعبث واللاجدوى بين المواطنين وتقسم الوطن الواحد طولاً وعرضاً.
هذه أعمال تعوق التقدم ولا بد من إيقافها لمخالفتها الدستور والعقل.