منذ سنوات طويلة وأنا أؤكد -عبر عشرات المقالات- أن النخبة المثقفة فى مصر هى أصل ثابت من أصول البلاء والتخلف، وأنها لا تصلح لأن تكون طرفاً فى حل أى مشكلة من مشكلات هذا البلد الكبير، حتى لو كان عدد غير قليل من أفراد هذه النخبة على قدر كبير من حسن النية، لأن حسن النوايا لا ينفع فى حل أى مشكلة إذا كان القائمون على الحل والمستشارون والخبراء الذين نسألهم الرأى والمشورة، لا يعرفون شيئاً من الأساس عن طبيعة المشكلة، وحتى فى حالة توافر قدر من المعلومات حول مشكلة كبيرة، فإن هؤلاء المسئولين وخبراءهم يسارعون إلى التماس الحلول فى الكتيبات التافهة والمعلبة التى تصدرها الهيئات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى للإنشاء والتعمير.
خذ عندك مثلاً مشكلة الفلاحة والزراعة فى مصر، وهى مشكلة ظلت تتراكم دون حل، أو تتفاقم بسبب حلول مستوردة، حتى وصلنا إلى وضع خطير: نستورد 65٪ من غذائنا، ويتعرض الفلاحون والمزارعون إلى مزيد من الإفقار وانهيار الصحة والتدهور البيئى، وباستثناء فئة قليلة جداً تزرع مساحات شاسعة بتعاقدات مسبقة مع السوبر ماركت العالمى، لا يوجد فلاح مصرى يكسب جنيهاً واحداً مهما ارتفعت أسعار الحاصلات والخضار والفواكه فى الأسواق؛ لأن فارق السعر بين شراء المحصول من الأرض، وبين بيعه للمستهلك النهائى يذهب إلى جيوب فئة أخرى لم تجد أبداً من يردعها أو يحاسبها، وهذه الفئة تتحصن فى اتحادات وغرف تجارية تحمى مصالحها المتوحشة، بينما يقف الفلاحون فرادى وجماعات فى عراء موحش خالٍ من أى حماية.
الغريب فى الأمر كله، أن الغالبية الكاسحة ممن تطلبهم الدولة لوضع حلول لتدهور أوضاع الفلاحين، ظلوا منذ أكثر من ثلاثين عاماً -وما زالوا- يرددون كلاماً تافهاً عن أن السبب الرئيسى فى هذا التدهور يعود إلى «تفتيت الحيازة الزراعية»؛ لأنها حرمت الفلاحين من استخدام الميكنة ومن التعاقد الجماعى، ولو كلف واحد من هؤلاء الخبراء نفسه، وزار قرية مصرية واحدة فى الدلتا، لاكتشف على الفور أن هذا الكلام الموصوف فى روشتات البنك الدولى المملة، لا وجود له فى أى مكان بمصر، فالحيازات الصغيرة جداً هى الأعلى إنتاجية؛ لأن أصحابها لا يملكون ترف إهمال زراعة شبر واحد من الأرض، كما أن الأراضى فى مصر ما زالت وسوف تظل لمئات السنين موزعة فى حياض، كل حوض يضم عشرات الأفدنة التى تزرع باتفاق جماعى بين ملاكها ومستأجريها.
والذى حدث أن استحالة حل مشكلة تفتيت الحيازة دفعت هؤلاء الخبراء إلى إلقاء المسئولية على الفلاحين أنفسهم وتركوهم لأقدارهم، وعندما جاء وزير إسكان لمصر، مجرداً من الضمير الإنسانى ومن الشرف الوطنى، وأمر موظفيه بضخ مياه الصرف الصحى فى الترع والمصارف، لاذ هؤلاء الخبراء بالصمت، ولم يتمكن وزراء الزراعة والرى المتعاقبون من وقف هذه الجريمة الوطنية؛ لأن وزير الإسكان كان طفلاً مدللاً لدى مبارك وأسرته.
وأخيراً.. جاء الرئيس عبدالفتاح السيسى ليؤسس مرحلة جديدة من التعامل الواقعى مع الفلاحين، فأمر كل وكلاء وزارة الزراعة بالوجود اليومى فى الحقول بدلاً من المكاتب، وأصدر قانوناً للتكافل الزراعى وآخر للتأمين الصحى على الفلاحين الذين أكلتهم أمراض الكلى والكبد والسرطان بسبب صرف المجارى فى قنوات الرى، وقد استخدم الرئيس فى خطابه قبل يومين كلاماً عاطفياً وهو يتحدث عن «غُلب المصريين»، أعاد إلى ذهنى الطريقة التى اتبعها الأب هنرى عيروط فى كتابه الرائد والمبدع عن «الفلاحين» وهو كتاب صدر عام 1938 كتبه هذا القسيس المؤمن والمثقف النبيل كوثيقة إدانة ضد طبقة الإقطاع المسيطرة آنذاك، وقد عاش الرجل حتى عام 1969 ولم ينقطع أبداً عن زيارة القرى التى ذهب إليها قبل أن يصدر كتابه، وظل حتى آخر يوم فى حياته ينبه النخبة المثقفة إلى ضرورة الاهتمام بالقرية والزراعة.. وإلى إنصاف الفلاحين من الفقر والبؤس والمرض والجهل إذا أردنا أن نغادر دائرة التبعية الذليلة للغرب.