ثلاث كليات لا أرى فى وجودها بشكلها الحالى فائدة، بل أرى ضرراً كبيراً. إنها كليات الحقوق والتربية والإعلام. فكلية الحقوق يتخرج فيها أهل القانون من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين. القانون وحكمه هما الفارق بين التوحش والتحضر، وبين التقدم والتخلف. القانون هو أحد أهم أعمدة الأمم الناهضة والحكم الصالح، فالقانون هو المرادف للعدل، وبدون عدل لا تقوم قائمة لأمة، وإذا قامت فإنها لا تستمر طويلاً. لهذا كانت وظيفة القاضى فى الحضارة العربية الإسلامية وظيفة رئيسية، وكان للقاضى مكانته وهيبته، ولهذا أيضاً أتى زعماء الفكر والسياسة فى زمن نهضتنا المصرية من بين القانونيين، فكان منهم مصطفى كامل وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وأحمد لطفى السيد وغيرهم كثيرون.
أما عن علاقة كل هذا بكلية الحقوق التى أطالب بإلغائها، فهى أن كليات الحقوق بشكلها الحالى تساهم فى إهانة القانون والقانونيين، ويكفى دليلاً على ذلك أن كلية الحقوق لا تعتبر من بين كليات القمة ولا حتى من بين الكليات متوسطة المكانة، ولكنها للأسف الشديد باتت منذ سنين من كليات القاع. حدث هذا عندما فتحت الدولة العشرات من كليات الحقوق، وعندما رفعت أعداد المقبولين فيها إلى عشرات الآلاف، فزادت أعداد القانونيين الجدد الذين يتخرجون للحياة العملية بشكل يزيد بكثير عن حاجة المجتمع وقدرته على توفير وظائف محترمة تحفظ للقانون مكانته ولأهله قدرهم.
بالإضافة إلى ذلك فإن لدىّ شكاً عميقاً فى أن شاباً حصل فى الثانوية العامة على مجموع درجات متواضع، فالتحق بواحدة من كليات الحقوق ضمن الآلاف العديدة التى تلتحق بها كل عام، فلم يستمع لمحاضرة لأن المدرجات مكتظة، وكانت كل صلته بالقانون مذكرات جامعية أغلبها بائس يحفظها بلا فهم ليلقى بها على ورقة إجابة فى امتحان، فينجح، ليعمل محامياً أو وكيلاً للنيابة، لا أظن أن شاباً مثل هذا فى مقام وقامة تسمح له بالعمل بالقانون -إلا من رحم ربى- ولا أظن أن ظروف المجتمع المصرى الراهنة تنتج لنا شاباً عمره أكثر قليلاً من العشرين عاماً لديه من النضج ما يسمح له بالعمل بالقانون الذى يجب أن يقوم عليه كل شىء فى مجتمعنا.
كليات التربية هى حالة أخرى مشابهة، وبصراحة فإننى لم أفهم أبداً المنطق الذى تقوم عليه كليات تدرس كل شىء من التاريخ للفلسفة للغة الإنجليزية للكيمياء والرياضيات وكل شىء آخر يجرى تدريسه فى مدارسنا. وكنت دائماً أتساءل عن الفارق بين التاريخ الذى يدرسه طالب التربية وذلك الذى يدرسه طالب الآداب، وبين الكيمياء التى يدرسها طالب التربية وتلك التى يدرسها طالب العلوم. أما الإجابة التى توصلت إليها فتتلخص فى أن خريج التربية ليس دارساً حقيقياً للتاريخ، ولا هو عالم حقيقى بأصول الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا، ولكنه يعرف من فرع تخصصه القدر الكافى للتدريس فى مدارسنا، والجميع يدرى حالها وحال التدريس فيها.
المدرس الذى لا يحيط بأصول مادته العلمية لا يمكن له أن يزرع التفكير العلمى وحب العلم فى الطلاب، والأرجح أن المدرس خريج كلية التربية هو أحد أسباب عجز مدارسنا عن إنتاج مثقفين وعلماء وباحثين حقيقيين. المدافعون عن كليات التربية يركزون على أهمية التأهيل الذى تقدمه هذه الكليات لطلابها لتمليكهم مهارات تربوية وتدريسية تمكنهم من نقل المعرفة لطلاب المدارس. غير أن الخبرة العملية بينت أن مهارات التدريس والتربية التى تقدمها كليات التربية لطلابها حولتهم إلى عباقرة فى تلخيص المناهج وتحفيظ الطلاب وفك شفرات الامتحانات، فارتفعت درجات الطلاب فى وقت تراجعت فيه معارفهم وحبهم للمعرفة والكشف.
كليات الإعلام الآخذة فى التكاثر فى الجامعات الحكومية والخاصة هى الضلع الثالث للمثلث. فالإعلام فى العصر الحديث بات ينافس البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة والحزب السياسى فى التنشئة الاجتماعية والسياسية، وأصبح خبرٌ أو مقالٌ يكتبه أحدهم يمثل الفارق بين السلم الأهلى والحرب الأهلية. هذا هو الدور الذى بات منوطاً بإعلاميين لم يدرسوا فى كلياتهم أكثر من فنون الخبر والمقال والتحقيق والإخراج، بالإضافة إلى قشور فى السياسة والتاريخ لا تؤهلهم للخوض فيها بأكثر كثيراً من المواطن غير المتخصص.
طلاب الإعلام يدرسون الشكل والقالب لكنهم لا يعلمون ما يكفى عن المحتوى والمضمون، فلا يعلمون عن السياسة أو الاقتصاد أو العلاقات الدولية أو الفنون والآداب والدين ما يكفى كى يملأوا القوالب الصحفية بمضمون ذى قيمة.
الحقوقى والمدرس والإعلامى يقومون ببعض من أهم الوظائف التى يحتاجها المجتمع، لكن الطريقة التى يتم من خلالها إنتاج هؤلاء تعوق التقدم ولا تسهله. والحل لكل هذا من وجهة نظرى بسيط ويتلخص فى تحويل الكليات الثلاثة إلى كليات للدراسات العليا يلتحق بها الطالب بعد تخرجه من كلية مناسبة. فخريجو الآداب والعلوم يمكنهم الالتحاق بكلية التربية للحصول على دبلوم أو ماجستير يؤهلهم للعمل كمدرسين. أما كلية الإعلام فيمكن لخريجى أى كلية الالتحاق بها للحصول على دبلوم فى الإعلام يتعلمون من خلاله فنون كتابة الخبر والإخراج الصحفى. كلية الحقوق يظل لها وضع خاص فلا يجب أن يلتحق بها سوى خريجو تخصصات معينة ذات صلة مثل السياسة والتاريخ والفلسفة والشريعة، ليقضوا أربع سنوات كاملة فى دراسة القانون، لتكون الدرجة العلمية التى يحصلون عليها فى نهاية السنوات الأربع معادلة لشهادة الماجستير، حتى وإن لم تتضمن كتابة رسالة بحثية.
هناك نوابغ بين طلاب الحقوق والتربية والإعلام الحاليين، ولكنك عندما تؤسس نظاماً يستوعب عشرات الآلاف من الطلاب فإنك لا تراهن على النوابغ لكنك تركز على الطالب المتوسط العادى وكيفية تحويله إلى مهنى متمكن، وهذا هو كل ما قصدته بهذا المقال.