مع قرب النطق بالحكم فى «قضية القرن» (27/9) المتهم فيها الرئيس الأسبق حسنى مبارك ووزير داخليته بقتل متظاهرى «يناير» تتجدد الشجون حول الثورة. البعض يرى أن صدور حكم لصالح «مبارك» يعنى الانتصار لنظام ما قبل 2011 برموزه وأفكاره ومكاسبه وشبكة مصالحه، وهناك من يرى العكس، بمعنى أن تأكيد المحكمة على الحكم بالمؤبد على «مبارك» ووزير داخليته، أو تشديد الحكم يعنى الانتصار ولو معنوياً لثورة يناير. وحقيقة الأمر أن الطرفين بحاجة إلى مراجعة رؤيتهما لهذا الأمر، لأن ثورة يناير قامت لتنتصر، أو قل إن انتصارها يقع فى سياق «الحتميات التاريخية»، كما أن العقبات التى واجهتها ولا تزال تواجهها هى الأخرى لها سمة «الحتمية»، دعنى أشرح لك هذا الأمر.
انتصار ثورة يناير «حتمية»، لماذا؟ لأنها ببساطة ثورة حقيقية قامت ضد نظام فاسد أيس الشعب من إصلاحه، نزل المصريون ضد نظام «مبارك» بعد ثلاثين عاماً من حكمه لأسباب حتمية: أولها انتهاء صلاحية هذا النظام وعجزه عن الوجود فى ظل سياق محلى وإقليمى ودولى لم تعد الألاعيب القديمة والأساليب التقليدية للرجل العجوز تنطلى عليه، وبالتالى فقد سقط هذا النظام على وجه الخصوص على يد الشباب، أبناء السياق الجديد الذى نظر إلى نظام «مبارك» بطرقه وأساليبه كنظام غادره الحاضر والمستقبل، وأنه نجح فقط فى السيطرة على جيل الآباء، الذى تعود الرضوخ بنظرة من عين النظام، وأحياناً ما كان «يرضخ على روحه». ثانى الأسباب أن ثورة يناير قامت مدفوعة بعوامل موضوعية، أولها الفساد، بما يرتبط به من تحول التنمية إلى وهْم، ووجود هوة شاسعة بين الطبقات الاجتماعية، وغياب أدنى مستويات العدالة الاجتماعية، ورسوخ إحساس لدى المواطن بأنه يعيش فى هذا الوطن بنظام الإيجار وليس بنظام الملكية، لأن البلد له أصحاب «وكويس إنهم سايبينا نعيش فيها». ويتحدد العامل الثانى لقيام الثورة فى الاستبداد، بما يرتبط به من قمع بوليسى، واحتكار للسلطة، لينتهى الأمر بخطة مُحكمة للتحول من النظام الجمهورى إلى النظام الجمهورى الوراثى وكأن البلد «تكية» يرثها آل «مبارك» والأرستقراطية المحيطة بهم «كابر عن كابر».
قامت الثورة وكان لا بد أن تقوم بعد أن انتهت صلاحية نظام «مبارك» وتجمعت العديد من العوامل الموضوعية لـ«تثوير» الشعب. لم يكن ما حدث فى يناير انقلاباً أو مؤامرة كما يذهب البعض، نعم حاولت أطراف عديدة ركوب الثورة واستغلالها وامتطاء صهوتها من أجل أن يصبحوا ورثة للعهد البائد. البعض استغل سياق «التململ» و«التفكك» الذى أصاب المشهد المصرى بعد الثورة، والبعض الآخر تصرف بخطط مسبقة محكمة من أجل السيطرة على الثورة العفية الجموح التى اجتاحت فى طريقها واحداً من أعتى الأنظمة الاستبدادية فى المنطقة، والبعض تصرف عفو الخاطر أو من وحى اللحظة من أجل الاستفادة من وجود السلطة على الأرض بعد خلع «مبارك» وحاول التقاطها، لكن شفرة يناير المتمثلة فى رفض الفساد والاستبداد والإصرار على الإصلاح منحت مُهرتها القدرة على المقاومة والاستمرار فى العدْو نحو الأمام رغم ما أُلقى فى طريقها من عثرات ومطبات.