ذكر كثيراً أن عبدالناصر تأثر كثيراً برواية توفيق الحكيم «عودة الروح» المنشورة عام 1933، التى كتبها مأخوذاً بثورة 1919. شكلت الرواية انتصاراً لفكرة القومية المصرية وتنبأت بظهور البطل المنقذ، الذى تصوره عبدالناصر فى نفسه فصار الكتاب وفكرته الكل فى واحد ملهماً له لتحقيق أفكاره فى الوحدة العربية التى يصير زعيمها وفى تنمية بلده ورفع مستوى شعبه.
وقد استعان عبدالناصر لتحقيق أهدافه تارةً بإنجازات فريدة حققت مكاسب ضخمة للغالبية الفقيرة من المصريين التى التفت حوله كمنقذ من الفقر والجهل والظلم الاجتماعى البيِّن، وتارةً أخرى بالقهر والقمع والاعتقال والتعذيب غير المُنكر.
كما أُعين عبدالناصر بوسائل غير مباشرة تمثلت فى المؤامرات الخارجية والغزو السافر فى 1956 و1967 صفت الشعب حوله فى مواجهة الأعداء الذين لم يكد يتحرر منهم قبل سنوات.
كان ظاهر الأمر وقتها وكما سارت الدعاية الإعلامية التى يُحسد عليها الآن وكما دقت الطبول حول الأغانى والراقصين أن الكل حول عبدالناصر، ولكن قبل أن يتحلل لحم الرجل فى قبره وتأكله البكتيريا كان بضعة أفراد ثم مئات ومع الوقت آلاف وملايين من الناس يلعنون الرجل ويخرجون بسيرته وحقائق وآراء ومعلومات ومصابين وجثث.
تبينت حقيقة أن الكل لم يكن فى واحد، وسرعان ما انقلبت إنجازاته إلى نقيضها، وسميت اشتراكيته اشتراكية الفقر، وصار الشعب نفسه يستخدم تلك الألقاب التى ألغاها ومنعها، بل إن نجيب محفوظ نفسه كان يستهجن أن تخاطب نوال السعداوى توفيق الحكيم بالأستاذ ويطالبها بأن تخاطبه بـ«البيه»! وتبين أن جماعات بل ونائبه نفسه والمقربين المساعدين الذين نفذوا بأياديهم معه طموحاته وإنجازاته وكانوا يدافعون عنها كأنها صغارهم، ويأكلون ويعذبون ويسجنون من ينكرها، كشفوا عن وجوههم الأخرى وأظهروا أنهم ضدها وأعداء لها وللمنتفعين منها، ما إن رحل عبدالناصر الواحد الذين ادعوا وادعى هو أنهم وغيرهم وكلهم واحد فيه!
بل إن الكاتب الكبير الملهِم، الذى منحه عبدالناصر قلادة النيل أعلى الأوسمة، خرج بعد موت الزعيم بعامين وليس قبل ذلك من فرط الشجاعة يلعن الزعيم وأعماله فى كتاب باسم «عودة الوعى» ويقول بمنتهى البساطة لشعب كان أكثر من نصفه أمياً إنه لم يكن واعياً بمصائب الأعمال طوال عشرين عاماً هى حكم الزعيم الملهم وإن وعيه قد عاد إليه بعد رحيله المفاجئ!
وبمناسبة الشجاعة فقد انتابت الكاتب العظيم نوبة شجاعة أخرى فصدَّر اسمه فى بيان للمثقفين يطالب السادات بالحرب وينتقد مواقفه، فخرج السادات الذى سمح بصدور كتاب عودة الوعى للحكيم ليستفيد منه كثيراً يهاجم الحكيم ويصفه بالعجوز المخرف الذى أكرمناه «يقصد بقلادة النيل» ويهاجمنا!
لم حدث ذلك وفعلوه؟
ملهمه ونائبه ورجاله وكتابه لم يكونوا كلاً فيه، ولا بعضاً منه، وإنما كانوا فى واقع الحال منافسيه وخصومه بل وأعداءه، لم يكونوا معه ككل ولا حتى كعقل أو قلب.
الحق أنهم كانوا الكل فى الخوف والطاعة فلما مات ظهرت أطنان الشجاعة. ناصر كان المفكر والفاعل الوحيد، ولم يتفق معه الكل المزعوم بإرادته الحرة المستقلة الواعية، ولذلك بيعت الإنجازات بأبخس ثمن ممكن دون أن تجد من يدافع عنها أو يحميها حتى من المستفيدين المنتفعين بها الذين لم يشعر أحد منهم أنها ملكه أو شريك فيها.
تصور أن الكل فى واحد وهمٌ وخرافة يحميها التخلف بصوره والقمع بأشكاله، لأن الواحد نفسه يناقض نفسه بين ليلة وضحاها، إن الواحد ليس هو الواحد نفسه بعد ساعة ولا بعد دقيقة، التغير لا يتوقف أبداً إلا فى الأموات. أحيانا الله!