كان الحزب الوطنى يشبه الحزب الشيوعى، وكان «مبارك» شبيه «بريجينيف»، وكان «جمال» يلهو فى حديقة القصر.. متصوراً أنه يركض نحو «الاتحادية».. لقد بدا الأمر ساخراً: النظام يريد إسقاط النظام.
(1)
كان الكاتب الأمريكى توماس فريدمان مقيماً فى الفندق، التقى شخصيات مختلفة فى حديقة الماريوت على مدار أيام الثورة.. وبقى أياماً بعد سقوط «مبارك» فى 11 فبراير 2011.
قال لى أحدهم: لقد جلست مع «فريدمان» اليوم، إنه عاد للتوّ من ميدان التحرير.. وهو يقول إن «مبارك» لن يصمد.
لم يكن توماس فريدمان فريداً فى توقعه، بل كان مشاركاً لـ(90) مليون مصرى رأوْا جميعاً أن الشعب أسقط النظام.
لكن المفارقة هى أن «فريدمان» كان صديقاً لجمال مبارك ومؤيداً له، وتوجد عشرة مقالات على الأقل لتوماس فريدمان، بعضها فى مديح جمال مبارك، وبعضها الآخر فى التبشير به ودعم قبوله أمريكياً ودولياً.
كان «فريدمان» ببساطة واحداً من أنصار التوريث فى مصر، ولطالما قطع فى آرائه بأن «جمال» قادم لا محالة.. وأنه يستحق.
(2)
كان طبيعياً والحال كذلك أن يتحول الكثيرون.. إذا كان «فريدمان» قد تحوّل وأصبح داعماً رئيسياً للثورة. تمدّدت مساحة المتحولين والمرتبكين حتى إن أحد أنصار «مبارك» البارزين قال فى حديثٍ تليفزيونى: «إن مبارك هو أول من أيّد الثورة»!
كان ميدان التحرير حاشداً بالشرفاء والنبلاء والأحرار، لكن بعض الأمتار المربعة فيه كانت مكاناً للشيطان.. لأولئك الذين يتظاهرون وعيونهم على واشنطن، والذين يتظاهرون وعيونهم على الجماعة.. والذين يتظاهرون لأجل غسيل السمعة وإلغاء الماضى.
وكان عدد كبير من العدد القليل فى مربع الشيطان يغادر ميدان التحرير إلى حديقة الماريوت فى انتظار نداء السلطة.
(3)
كان «شباب الثورة»، وهم بالوصف الأدق «شباب الفضائيات» يقضون فى حديقة الماريوت أكثر مما يقضون فى الميدان.. كان الشباب الثائر النبيل فى الميدان أو فى المنزل أو فى الطريق.. ولكن «شباب الفضائيات» كانوا يمرّون على القنوات التليفزيونية.. وعلى رجال الأعمال الذين تحوّلوا إلى «رعاة» اقتصاديين، وعلى مرشحى الرئاسة المحتملين. كان بعضهم يخرج من المرشح المحتمل للآخر.
كان «مبارك» لا يزال رئيساً.. لكنها ترتيبات «تجار» لا «ثوار».. ترتيبات «عيون وقحة» لا تُذْرِف دمعةً واحدة، بل تدير غنائم ما بعد الدفن!
حاولت كثيراً أن أفهم بعضاً من مشاهير شباب الثورة.. لكننى لم أجد ما يستحق الفهم. كان كل ما أسمعه عشر كلمات إلى خمس عشرة كلمة، ثم يجرى ترديدها من جديد. لم أجد ما يمكن النقاش بشأنه فى قضايا جادة.. تخص الثورة أو الدولة، السياسة أو الاقتصاد، الإقليم أو العالم.. الأمن أو الطعام.
كان الخطاب الثورى لهذه المجموعة البائسة.. كلاماً ساذجاً وتحليلات بليدة.. ولا مبالاة وعدم اكتراث لا مثيل له. وحين سألنى الأستاذ خالد صلاح ذات مرة: ما رأيك فيما يجرى. قلت له: أعظم ثورة وأسوأ ثوار.
(4)
كانت قطاعات واسعة من «شباب الثورة» متعجّلة على نحو صادم، شاهدت بعضهم يضع تشكيلاً وزارياً، وبعضهم يقول: لا.. هذا لا يصلح، اكتب اسم فلان هذا وزيراً. وبعضهم يقول: سنُسلم ورقة جاهزة بتكوين الحكومة إلى المجلس العسكرى لإقرارها.
وحكى لى أحد المرشحين المحتملين أنه استقبل «وائل غنيم» فى حديقة الماريوت ليستمع إلى رؤيته، لكنه خاب أمله حين فَاوضَه «وائل» وقال له فى وضوح: لماذا كل هذا الكلام.. إحنا جيل هات من الآخر.. تدّينى إيه أدّيلك إيه؟!
(5)
كانت التوقعات فى تلك الأثناء لا تصمد كثيراً، وكانت بورصة الأسماء فى صعود وهبوط مثل رسم القلب.. وكان «تويتر» معبّراً قوياً عن حدّة التقلبات وعنف المستجدات.
وفى مرة.. كنت أجلس فى حديقة الماريوت فى أيام «مبارك» الأخيرة.. جلسنا لتناول الشاى: دكتور عصام شرف، دكتور يحيى الجمل، دكتور نبيل العربى وآخرون. وكنا نجيب عن سؤال: هل سيتنحى «مبارك»؟ وماذا ومَنْ بعد «مبارك»؟
مضت أيام قليلة من شاى الحديقة، وأصبح الدكتور عصام شرف رئيساً للوزراء، وأصبح الدكتور يحيى الجمل نائباً لرئيس الوزراء، وأصبح الدكتور نبيل العربى وزيراً للخارجية.
(6)
كان نظام «مبارك» فى هذه الأيام: لا يوجد، أو هو بتعبير الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى: «هذا الزحام لا أحد».
قال لى أحد رؤساء التحرير: لن تتخيل.. اتصل بى الدكتور زكريا عزمى يقول: لماذا لا تنشر كذا وكذا حتى يعرف الناس. قلت له: أمامنا يوم كامل حتى يصدر العدد الجديد.. والأمور تتغير كل دقيقة. قال لى: لماذا لا تنشروا ذلك الآن على موقعكم.. قلت له: دكتور.. هل حضرتك لا تعرف أنه قد تم قطع الإنترنت، وأن كل المواقع لا تعمل منذ أيام!
وحكى لى سياسى بارز أنه اتصل بالدكتور فتحى سرور فى منزله مساء يوم الجمعة 28 يناير يسأله عمّا يجرى، وعمّا إذا كان سيُصدِر بياناً كما قالت بعض الفضائيات. قال له الدكتور فتحى سرور: أىّ بيان؟ أنا لن أصدر شيئاً. عموماً سأنتظرك غداً فى مكتبى فى مجلس الشعب.. قال له: دكتور.. أىّ مكتب وأى مجلس؟ هل حضرتك لا تتابع الأحداث.. ميدان التحرير ممتلئ وكل الطرق ممتلئة والشرطة انتهت.. ولن يمكنك التحرّك خارج المنزل.
قال: لا لا.. الجيش نزل وأراك فى المكتب غداً! (7)
لم يكن نظام «مبارك» يحتاج مجهوداً حتى يصل إلى مشهد النهاية.. كان «السادات» يرى فى ثورة التصحيح سقوطاً لمراكز القوى.. وفى تقديرى فإن ثورة يناير كانت سقوطاً لمراكز الضعف.. النظام أسقط النظام.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر..