ذكرنا فى المقال السابق أن فكرة الكل فى واحد التى اعتمد عليها عبدالناصر فى حكمه، واستخدم فى سبيل تفعيلها وسائل قمعية وقهرية شديدة ومتنوعة، لم تكن حقيقية بل كانت زيفاً وعبثاً، وأن هؤلاء الذين اعتبروا رجاله المخلصين -ومنهم نائبه هو نفسه- لم يكونوا كلاً فيه كواحد، وبان أنهم لم يخضعوا له ولم يعملوا معه إلا خوفاً وطمعاً، وبمجرد رحيله انقلبوا على لحمه فأكلوه، وعلى أعماله فنقضوها وبدأوا يعيدونها على عكس ما كانوا يعملون معه، بل إن جمهور المستفيدين من إنجازاته لم يستطيعوا إيقاف ما يؤخذ منهم من منافع، ترد إلى أعدائهم سواء كانت أراضى أم غير ذلك لسبب بسيط جداً، وهو أن هؤلاء المنتفعين كانوا لا يزالون يشعرون بالخوف والقلق وعدم الثقة الذى كان يلازمهم أيام عبدالناصر.
الخوف مع الوقت يزيد طبقات فوق طبقات، وتلك الإنجازات أقيمت فى ظل الخوف الحاكم، وعلى الخوف.. بناها خائفون، وانتفع بها وتملك بعضها خائفون، ولذا انهارت مع رحيله لأن الخوف هو تردد واهتزاز وترنح وسقوط.
الخوف طفولة وعدم نضوج، وإن لم يصحبه تبول لا إرادى، فستصحبه زيادة فى كمية البول وإدراره.
الخوف قلق ورعب يؤثر على قلوب الخائفين، ويقرب نهاياتهم للموت.
الخائف لا يأمن، كائن مهلل فى داخله، ضعيف، يكاد يلملم نفسه ويبقيها، مهموم بحفظ حدودها وسورها معزولاً لئلا يقع، ولذا لا هو قادر على حماية نفسه ولا على حماية شىء آخر بما فيها منجزات عبدالناصر.
ظل السادات نائب عبدالناصر والحاكم بعده مبقياً على هذا الميراث العظيم من الخوف، ولكى يحقق إنجازاته التى تتجلى فى رأسه هو الآخر كزعيم ملهم، له نفس الحق المطلق كالزعيم الذى قبله، عمل على سلب إنجازات الزعيم الأول التى حققها لخائفين خافوا أن يدافعوا عن مكاسبهم ويحموها.
ولكن ما أضافه السادات لجمهورية الخوف واستخدمه كثيراً فى خطاباته ووسائل إعلامه الإعلانى هو الاعتماد على صيغة أخرى غير الكل فى واحد، وهى صيغة رب العائلة «أنا كبير العائلة المصرية» أو «كلكم أبنائى» أو «العودة لأخلاق القرية المصرية» وهذه طريقة خطاب أخرى لتمكين الحاكم المطلق وإلزام الشعب «العائلة المصرية» بالطاعة العمياء والخضوع التام للرئيس «الأب» دون معارضة إلا كأسرة.
ولكن الإنجاز الكبير للسادات فى دعم جمهورية الخوف بطريقة غير مباشرة، ومن غير قصده، هو إطلاق الجماعات الدينية السياسية كالذئاب على معارضيه، ولتخاطب الناس -دون غيرها- فى المساجد والمؤتمرات بحرية تامة، ولتعمل وتحكم بالعنف فى الجامعات، وبعض الشوارع والمناطق، هذه الجماعات التى تبنى عقيدتها على فكرة الحكم المطلق أيضاً، ولكنها تستند إلى دعاوى دينية كالحق الإلهى أو الحاكمية أو الخلافة أو طاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ومثل هذه التنويعات اللفظية.
أضافت هذه الجماعات وقوداً إلى فكرة الاستبداد والحاكم المطلق بفكرتها وعقيدتها التى أخرجت للناس، التى تستمد ثقافتها من خلال الأذن أساساً.
إن صيغ الخطاب سواء كانت الكل فى واحد أو رب العائلة أو الحق الإلهى أو الحاكمية أو خلافه أو الخوف من الفوضى هى من صيغ الاستبداد والحكم المطلق سواء كان فرداً أم جماعة وهى صيغ جامعة معتمدة لا تختلف من بلد لآخر، فكل البلدان استخدمتها وتستخدمها فى أوقات الاستبداد، فبينما تعتمد مثلاً فى بلاد المسلمين على القرآن الكريم والسنة المحمدية، فإنها اعتمدت على شواهد من الكتاب المقدس فى بلاد الغرب فى مراحل ما قبل الديمقراطية.
إننا لا نزال فى تلك المرحلة الأدنى من التطور السياسى والاجتماعى الذى لا يزال يستخدم أسباباً ومبررات للاستبداد ولحكم الفرد.
بعضنا على الطريق..
وسنصل حتماً للديمقراطية.