يعد الشيخ محمد مهدى شمس الدين، الرئيس الراحل للمجلس الإسلامى الشيعى اللبنانى الأعلى، نموذجاً للعالم الشيعى الذى يحب كل المسلمين ويكره الطائفية ولا يسىء إلى أحد من الصحابة.. ويقرأ رسالة الإسلام بطريقة صحيحة.. ويكره الفتن كلها.. خاصة الفتن المذهبية والطائفية بين السنة والشيعة والدينية بين المسلمين والمسيحيين.
وقد كان الراحل صديقاً لكل علماء السنة والشيعة على السواء.. وأحبه الجميع لشفافيته وصراحته وقوته فى الحق.. وقد زار القاهرة كثيراً وكان فى كل زياراته لها يكرر قوله إنه «مع الوحدة الإسلامية دون تعصب ومع الحرية الفكرية دون تحلل وإنه يجب على الاجتهاد الإسلامى أن يخرج من دائرة المذهبية الضيقة إلى دائرة الإسلام الرحبة».
لذلك، قام الراحل مهدى شمس الدين بالتجديد فى الفقه الشيعى، خاصة موضوع ولاية الفقيه وولاية الغائب، وهى تمثل حجر الزاوية فى الفكر السياسى الشيعى فقال إنه «فى زمن غيبة الإمام وعدم القدرة على نصب الخلافة، كما يقول فقهاء أهل السنة، فإن الأمة تسترد الولاية على نفسها فتختار بطريقة الانتخاب الحر من يكون حاكماً لها».
أى أن «شمس الدين» جعل الأمة أولى بنفسها من ولاية الفقيه عليها.. وهل الفقيه أدرى بمصالح الأمة أكثر من نفسها؟ فالأمة ولية على نفسها وهى المنوطة باختيار حكامها.. وهذا ما يقول به الفقه عند السنة، ووافقه كذلك الراحل مهدى شمس الدين بسعة أفقه وعلمه.
ومن اجتهاداته الرائعة والجريئة «تحريمه ما يفعل كثير من الشيعة من ضرب رؤوسهم بما يجرحها فى الاحتفال بعاشوراء».. وهذا الأمر لم يجرؤ على طرحه علانية سوى عدد محدود لا يجاوز أصابع اليدين من علماء الشيعة؛ لذلك تجد هذه العادة قليلة جداً فى لبنان.
وقد جرت بين الشيخ مهدى شمس الدين وعدد كبير من علماء الشيعة فى لبنان اختلافات جوهرية فى كثير من المسائل ولقى ربه وهو على رأيه.. ومن خالفهم لا يزالون على آرائهم ولم ينَل ذلك من تقدير الجميع له.
وكان الشيخ مهدى يكره الفتن المذهبية ويسعى دوماً لإطفائها والذهاب بنفسه إلى أماكن اشتعالها.
ومن كلماته المأثورة والشجاعة أن «الإسلام لا تمثله الحركات المسماة الأصولية، وكان يقول عن هذه الحركات إنها غلبت السعى للسلطة على العمل لمصلحة الأمة وجعلت الإسلام رافعة للوصول إلى الحكم».
وكان دائماً يرفض استخدام العنف ضد الحكومات ويقول: «إن العنف الذى تمارسه هذه الحركات موجه إلى الإسلام نفسه قبل أن يكون موجهاً إلى أى جهة أخرى».
ورغم أن للشيخ مهدى موقفاً صلباً وعدائياً جداً ضد الكيان الصهيونى، وهو من أوائل الذين دعوا لمواجهة الاحتلال الإسرائيلى للبنان عام 1982، حتى إنه اعتصم فى مسجد الصفا احتجاجاً على ذلك العدوان وأفتى بحرمة التطبيع مع إسرائيل وحرم شراء البضائع الإسرائيلية وانتقد لقاء الشيخ طنطاوى بشيمون بيريز ولقاءه قبل ذلك ببعض الحاخامات اليهود وأرسل إليه رسالة خاصة مطولة ينكر عليه ذلك ويبين له ضرر ذلك على القضية الفلسطينية والعربية ولكن بأدب راقٍ وتقدير كبير لمكانة الأزهر وشيخه.. ورغم كل هذه المواقف فإنه كان يحرم ممارسة العنف ضد الحكومات التى وقَّعت معاهدات صلح مع إسرائيل وأبدع مقولة جميلة هى «للحكومات ضروراتها وللأمة خياراتها».
وكان يقول: «ضرورات الأنظمة لا تلغى خياراتها الأمة»، وكان من أكبر المؤيدين للانتفاضتين الأولى والثانية.. وكان يرفض سب الصحابة.
وقد ترك الشيخ مهدى وصية مسجلة بصوته نشرها ابنه إبراهيم بعد موته، ولعلى أسرد بعضها لضيق المقام فى هذه النقاط المختصرة:
1- أوصى أبنائى وإخوانى الشيعة الإمامية فى كل وطن من أوطانهم وفى كل مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم فى أقوامهم وفى مجتمعاتهم وفى أوطانهم ولا يميزوا أنفسهم بأى تمييز خاص؛ لأن المبدأ الأساسى فى الإسلام هو وحدة الأمة التى تلازم وحدة المصلحة، ووحدة الأمة تقتضى الاندماج وعدم التمايز.
2- إنشاء تكتلات حزبية وسياسية خاصة بالشيعة لم تؤد إلى أية نتيجة تُذكر.. بل أدت إلى كثير من الأزمات.. وعمّقت الخوف والحذر وسوء الظن والتربص فى أنفس بقية المسلمين فى المجتمع من خصوص طائفة الشيعة وحققت فى أحسن الأحوال تعايشاً هشاً مشوباً بالشك والحذر.
3- لبنان وطن نهائى لجميع بنيه.. وهذا المبدأ ضرورة للاجتماع اللبنانى ولبقاء كيان لبنان ولمصلحة العالم العربى فى كثير من الأبعاد.. ولمصلحة العالم الإسلامى، هذا بالإضافة إلى النظر إلى ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين اللبنانيين.
4- من الوصايا الأساسية التى أركز عليها بالنسبة للمسلمين اللبنانيين وللعرب جميعاً: الحرص الكامل على وجود وفاعلية المسيحيين فى لبنان وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء والرضا الكامل.. وعلى عدم وجود شعور بالإحباط أو الحرمان أو بالنقص أو بالانتقاص أو بالخوف على المستقبل وما إلى ذلك.. هذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة وعلى الحس الإنسانى فقط.. وإنما هى قائمة على حقائق موضوعية أساسية لا بد من مراعاتها.
5- أوصى الشيعة اللبنانيين بالخصوص فى لبنان وأوصى المسلمين جميعاً شيعة وسنة ألا يفكروا بالحس السياسى المذهبى أبداً أو يبنوا علاقتهم على أساس التمايز الطائفى مع اعتراف الأنظمة بالهوية الدينية والمذهبية لكل طائفة.
6- لا بد من مخرج لإصلاح النظام السياسى فى العراق.. ولإعادة استقرار العراق ولاستعادة دوره، ولا بد أن يتم باتفاق بين الجميع مثل اتفاق الطائف.
فهل تعى ميليشيات الشيعة الموجودة الآن فى العراق وسوريا وغيرهما هذه المعانى الراقية؟ وهى التى تفجر مساجد السنة فى يوم الجمعة بالمصلين فيها.. أو التى قتلت فى السنوات الماضية بالاسم فكانت تقتل كل من اسمه أبوبكر أو عمر أو عثمان أو عائشة أو حفصة أو معاوية.. وكانت تقتل بالمذهب فتقتل كل سنى دون ذنب أو جريرة.
إن علينا جميعاً أن نتعلم من هذا العالم الشيعى الذى وهب حياته لتوحيد الأوطان وتآلفها.. فهل من طائفة شيعية تهب لتنفيذ أفكار ووصايا هذا العالم الشيعى الكبير؟!