المكان: (25 كم من باريس) مدينة صغيرة على نهر السين.
الزمان: الخميس الماضى.
عندما تقابلت مع صديق مصرى، سافر معنا فى 74 إلى فرنسا.. وظل مقيماً هناك، ولم يعد لمصر من 10 سنوات سوى مرة واحدة، عندما حاول أن يستثمر فى إنشاء فندق على شواطئ سيناء، وجرى له ما جرى وقتها.. فعاد من حيث أتى غاضباً..
ليتجه وقتها إلى مدينة «أغادير» بلد زوجته المغربية، وأقام هناك قرية سياحية يديرها شقيق زوجته، تعج الآن بالفرنسيين والألمان، وما زال يملك ويدير مجموعة مطاعم إيطالية بضواحى باريس.
المهم نجحت فى إقناعه بالعودة معى لزيارة «مصر الجديدة» التى لا ذنب لها فيما فعله «السفهاء» و«الفاسدون»، والجهاز الحكومى المتخلّف بقوانينه الخربة، وبيروقراطيته العقيمة، وروتينه العفن، الذى طفّش الواعدين والفاهمين والجادين، وبعد أن اقتنع بكلامى عن «مصر الجديدة» والأمل فى الإرادة السياسية لدى «السيسى» وبعض وزرائه المحترمين (رغم قلة عددهم).. أخرج جواز سفره الفرنسى لنكتشف أنه انتهى من يومين، ويلزمه جواز سفر جديد. تمام الثامنة والنصف صباحاً دخلت معه مبنى «البرفكتير» بمدينة سان جيرمان.. وهو مجمع صغير بكل منطقة لاستخراج جوازات السفر، البطاقات الشخصية، رخص السيارات ورخص القيادة المحلية والدولية، وأى شهادة إدارية من أى نوع يحتاجها المواطن، وفيه أيضاً الحصول على موافقات تأسيس الجمعيات الأهلية غير الهادفة للربح ومحظور عليها العمل بالسياسة أو التجارة، ومنه تحصل على موافقة الشرطة لتنظيم أى مظاهرة.. وفيه يمكنك نقل ملكية السيارة و.. و.. (مكان واحد وشباك واحد وموظف واحد مبتسم دائماً)!!
سحبنا رقماً من الماكينة لانتظار الدور، وسط عشرات المنتظرين الجالسين، وكل منهم يُخفى وجهه فى كتاب يقرأه، أو جريدة يتصفّحها رغم أن «الصبايا» رايحين جايين بشورتات ساخنة، ولا أحد يبالى!!
9 دقائق احتسينا فيها فنجانين «إسبريسوا» من الماكينة المملوءة بكل أنواع المشروبات.. ونُودى على اسمه ورقمه بشباك 4، الموظفة (سيدة غاية فى الشياكة، مبتسمة طول الوقت) تتصفح المظروف الذى قدّمه لها ويحتوى على جواز سفره المنتهى + طابع دمغة فئة 50 يورو + صورتين فوتوغرافيتين حصل عليهما من ماكينة التصوير الملاصقة لماكينة القهوة.. وبعد 38 دقيقة و13 ثانية، كانت الموظفة نفسها تناديه لتسليمه جواز السفر الجديد والصالح حتى 2024.. لنخرج متجهين بالسيارة المركونة فى الباركينج تحت المبنى، إلى البنك الذى يتعامل معه.. فى 3 دقائق خرج مدير الفرع مبتسماً وبيده أوراق من 3 صفحات ليوقع عليها صديقى، الذى تقدم من أسبوعين بطلب قرض بـ200 ألف يورو، تكملة ثمن شقة 60م لابنه الذى بلغ سن الـ18 سنة ويرغب فى الاستقلال والاعتماد على نفسه، فهو طالب أنهى البكالوريا، وسيُكمل تعليمه الفنى العالى، بما سيتكسّبه من العمل أثناء الدراسة!!
16 دقيقة و7 ثوانٍ، تم التوقيع، وتسلم خلالها بطاقة «فيزا»، كان قد طلبها مع دفتر شيكات جديد.. ثم دخلنا مبنى «العمودية» الموجود به مكتب «عمدة» المدينة أو القرية، وفيه يمكن لأى مواطن الحصول على شهادة ميلاده ولزوجته ولأبنائه، أو صورة من عقد جوازه، وفى الصالة الكبرى يمكنك أن ترى «ماكيت» بحجم كبير لمستقبل هذه المدينة فى العشرين سنة المقبلة (الطرق والكبارى والأنفاق التى ستنشئها المدينة) والتوسّعات المستقبلية لأطرافها، والمشروعات التى تم الاتفاق عليها مع شركات محلية أو أجنبية مرسومة وموضحة على «الماكيت»، وعلى الخريطة المجاورة تتعرّف على المشروعات التى ترغب المدينة فى جذب مستثمرين إليها، والحوافز التى تمنحها لك المدينة إذا استثمرت فيها، وخلقت فرص عمل للشباب، والعمدة مكتبه مفتوح لاستقبالك دون موعد مسبق، إنشالله هتفتح مطعم «كشرى» وهتشغل 3 أفراد، العمدة هيحضر الافتتاح ومعه طاقم الموظفين المختصين، ويحل لك أى مشكلة.. بالمناسبة من أسبوعين اقترحت على رئيس هيئة الطرق اللواء المحترم سعد الجيوشى أن يضع «ماكيت» للطرق، والمحاور الجديدة، والدائرى الإقليمى وغيره فى ميدان التحرير، وفى مدخل كل مبنى محافظة، وخرائط لهذه الطرق بمحطات المترو ليعرف الناس مسبقاً مطالع ومنازل وأماكن هذه الـ3200 كم، حتى لا يحتكر المعلومة بعض رجال الأعمال، فيسبقون ويشترون هذه الأماكن المميّزة، وليعرف المواطن من الآن أن هناك «محوراً جديداً» من الكيلو 40 أمام مدخل الشيخ زايد على الصحراوى، سيربطه بميدان الخلفاوى بشبرا، فبدلاً من شرائه شقة لابنه فى شبرا، يمكنه بنفس الثمن شراء فيللا صغيرة على الصحراوى مثلاً، المهم إعلام المواطن، كل مواطن وكل مستثمر وليس «القلة» المحتكرة، بكل شىء.
نرجع إلى موضوعنا: والساعة الآن تشير إلى الحادية عشرة و55 دقيقة، وهناك تتوقف جميع المصالح عن العمل من 2:12 ظهراً، ليتناول الموظفون وجبة «الغداء».. وبما أن سيارته تحتاج إلى تغيير زيت وتشحيم وكشف على الشكمان، خوفاً من شرطة البيئة، تركنا السيارة بمحطة البنزين المجاورة لمبنى العمودية، لندخل مطعماً إيطالياً نلتهم أحلى بيتزا على فرن خشب، صناعة شيف مصرى صعيدى بيُرطن فرنساوى، وبيفكر يشترى المطعم من صاحبه اليهودى المغربى، البنك هيدفع 70% والمشترى 30% بضمان العقار.. بعد أن تزوّج من تونسية تحمل الجنسية الفرنسية ومنحتها له، وأصبح مواطناً له كل حقوق المواطنة، والآن من حقه أن يُرشح نفسه لرئاسة فرنسا «ويسقط مش مهم».. والمدهش أن نفس الشخص المصرى الصعيدى المولود لأبوين وجدين مصريين ليس من حقه الترشّح فى دائرة فرشوط عضواً بمجلس الشعب!!
دفعنا حساب البيتزا والآيس كريم، وتسلمنا السيارة، وفى الطريق دخلنا شركة «التأمين» التى يتعامل معها، لعمل تأمين مؤقت على حياته أثناء رحلته لمصر، إذا تعرّض لحادث أو لمرض مفاجئ، تلتزم شركة التأمين بإرسال طائرة طبية تحمله ليُعالج مجاناً بباريس أو أى عاصمة أوروبية.
ثم دخلنا مركزاً تجارياً ليشترى حقيبة سفر، ويتسلم تذكرة الطيران.. ويتفق مع شركة إعلانات على حملة دعائية لصالح سلسلة مطاعمه قبل أعياد الكريسماس.. وفى المساء دخلنا حفلة «الليدو» من 11:9.
هذه الإنجازات تمت فى يوم واحد.. دون لكاعة، ولا رذالة، ولا عصبية أو نرفزة، ودون تماحيك!!
والسؤال: متى نصل إلى هذا المستوى، ونقفز بمصر إلى سماء العالمية، كما نحلم.
والإجابة: نظام.. سيستم.. انقلوه. غِشّوه.. هاتوا أجانب يعملوه..
(بالمناسبة دخلت أمس الأول مع صديقى المهاجر فرع بنك الإسكندرية بالمعادى لفتح حساب له وإيداع 10 آلاف يورو كاش، كبداية للتحويل عليه مستقبلاً، ومن موظف مكشر، لموظفة مكلضمة، لمدير خايب، يرفض فتح حساب بجواز سفره المصرى الجديد الممغنط، ويرفض أيضاً بجواز سفره الفرنساوى، لازم بطاقة الرقم القومى، بالإيميل، ابنته من باريس بعتت لنا صورة البطاقة، ماينفعش.. ليه؟
عايزين (جثة) البطاقة (التعليمات كده يا بيه).. وخرجنا قفانا يأمّر عيش.. وكانت أول القصيدة كُفر..، وظللنا طول الطريق نتريق ونضحك على هؤلاء البؤساء.. وشر البلية ما يضحك.
ونستكمل الثلاثاء المقبل.