إن حلول ذكرى عبور أكتوبر العظيم مناسبة عزيزة؛ عزيزة على كل مصرى، وعلى كل إنسان يتوق إلى الحرية والكرامة.
لكن سموَّ المناسبة يقتضى أن نرقى إلى مستواها. فالحدث أكبر من أن يُعظَّم، وأجلُّ من أن يُمجَّد بمجرد التفاخر الأجوف.
الاحتفاء الخليق بمثل هذا الحدث التاريخى لا يكمن فى الفخر والزهو التظاهرى، ولكن فى التأسى بالحدث الفريد؛ فى تسامى الفعل وصولاً لقدْره، فى مجالات الوجود كافة، وعلى الدوام.
ولعل السؤال الواجب طرحه هو: هل نرقى، نحن المصريين، فى بدايات القرن الحادى والعشرين إلى جلال إنجاز أكتوبر 1973؟
يستدعى إعمال الفكر فى الأحداث التاريخية اتساع مجال النظر، فى المكان وفى الزمان.
لقد مر على الحدث العظيم نيف وأربعون عاماً حفلت بتغيرات هائلة على صعيد البشرية والمنطقة، انعكست، لا محالة، على مصر.
ولعل أهم التغيرات العالمية هى التسارع المعرفى والتقانى الكاسح، وتبلور العالم وحيد القطب بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وانتصار الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، على صعيد العالم كله، كشكل مهيمن للتنظيم المجتمعى يقوم على مركزية حرية السوق، وتبنِّى حافز الربح كالمحرك الأساسى للنمو الاقتصادى، الذى يُعد، خطأً فى نظرى، صنواً للتقدم. وإن كان الاتحاد الروسى بقيادة بوتين يحاول جاهداً العودة إلى موقع مؤثر فى العالم، ولكن من دون تقديم نموذج مجتمعى مغاير كما كان الاتحاد السوفييتى. كما تتبلور أقطاب تأثير مهمة فى الشرق الأقصى تدانى مكانة الدول الكبرى، ومع ذلك تتكامل فى تكتلات عملاقة. وأضحت إيران قوة إقليمية صاعدة ومؤثرة فى مجريات الأمور فى المنطقة العربية. والأهم ربما أن المنطقة العربية على شفا حرب إقليمية ضروس، لا يستبعد البعض أن تفضى إلى حرب عالمية.
ويعنينى فى هذا الصدد، فى المنظور التنموى، طرح نقاط ثلاث.
الأولى، أن الرأسمالية ليست نسقاً اقتصادياً صرفاً، بل تحمل أبعاداً اجتماعية وسياسية لا فكاك منها بين البلدان على مستوى العالم وداخل كل بلد. فمعروف أن السوق الحرة تحابى الأقوياء ولا تهتم بالضعفاء. ولذلك تقوم فى المجتمعات الرأسمالية الناضجة آليات كفء لضبط نشاط الأسواق حماية للمصلحة العامة، ولحماية الضعفاء وتقويتهم، من خلال تولى الدولة مسئولية العدالة التوزيعية فى المجتمع. ولا تقوم هذه الآليات بكفاءة فى البلدان النامية، ولا على صعيد العالم بين البلدان. وتأكيداً لا تقوم بكفاءة فى مصر.
ولذلك تترتب على برامج التكيف الهيكلى، المسماة تدليساً الإصلاح الاقتصادى، فى البلدان النامية التى تتحول إلى النسق الرأسمالى المنفلت، آثار سلبية متفق عليها مثل زيادة البطالة وانتشار الفقر وتفاقم التفاوت فى توزيع الدخل والثروة، ومن ثم فى هيكل القوة. وينجم عن ذلك نشوء فئة صغيرة من أباطرة الثراء والقوة، على حين تندرج كثرة الناس فى عداد الضعفاء.
وهذه معوقات أكيدة لنجاح الرأسمالية فى ضمان الكفاءة وتوليد النمو الاقتصادى وعدالة توزيعه الذى يعول عليه فى التخفيف من سوءات السوق الطليقة غير المنضبطة بآليات الحكم الرشيد، ناهيك عن نهضة حق فى بلد نام. وتدل الخبرة على أن البرامج التى تقام للحد من هذه الآثار لا تكفى للقضاء عليها.
وتنسحب مثل هذه السوءات على صعيد العالم الذى يشهد، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، منذ سبعينات القرن الماضى موجة متعاظمة من تفاقم سوء توزيع الدخل والثروة بين أقطاره. وتتكاثر الآن الكتابات فى الغرب عن الآثار الوخيمة لفرض الرأسمالية على دول العالم الثالث، وفشل مؤسسات التمويل الدولية (صندوق النقد والبنك) فى إدارة الاقتصاد العالمى باعتباره من أهم أسباب الأزمات الاقتصادية العالمية.
ولسنا فى مصر عن كل هذا بعيدين.
والنقطة الثانية أن احتلال موقع متميز فى العالم الجديد، بل مجرد الوجود الكريم فيه، رهن بامتلاك قدرة عالية، ومطردة التنامى، فى المعرفة والتقانة، وكفاءة إنتاجية مرتفعة، ومطردة الترقى فى مجالات النشاط الإنسانى كافة. والمحك الأساسى هنا هو العالم من حولنا، وليس مجرد تطورنا الذاتى.
ولا تتحقق هذه الغايات دون بناء رأس المال البشرى، وتحسين نوعيته باطراد. والمقصود برأس المال البشرى القدرة الصحية -فى المنظور الإيجابى- والمعارف والمهارات والتوجهات الاجتماعية المتجسدة فى الناس- وبوجه خاص ملكات النقد والتعلم الذاتى والإبداع، والقيم الاجتماعية البناءة.
غير أن هناك مطلباً آخر. فالبشر فى المجتمعات الحديثة ليسوا جزراً منعزلة. والتنظيم المجتمعى الذى ينضوى تحته الأفراد محدد جوهرى لأقدارهم فى الحياة من ناحية، ولمدى مساهمتهم فى ترقية مجتمعاتهم من ناحية أخرى.
لذلك يُجمع الفكر التنموى الحديث على الأهمية الحاسمة لما أصبح يسمى رأس المال الاجتماعى. ويعنى ضرورة انتظام الناس، كل الناس، فى تنظيمات، إنتاجية واجتماعية وسياسية، تقوم على مبادئ الكفاءة والمشاركة الحية والمساءلة الفعالة للمسئولين فيها. ويتطلب رقى رأس المال الاجتماعى، على الخصوص، سيادة نسق للحوافز المجتمعية يُعلى من قيم المعرفة، والاجتهاد، والإتقان، وخدمة المجموع، إلى غير ذلك من التوجهات الاجتماعية المواتية للنهضة، ويكافئها بسخاء.
ولعل أهم دروس عبور أكتوبر فى المنظور المجتمعى التأكيد على الحقيقة الراسخة: أن مصر غنية فقط بالبشر، إن كانوا قادرين، مبدعين، ومنظومين فى نسق متناغم يتوخى غايات الوطن، ويعمل من أجلها، بكفاءة وتفان.
وما زال أمامنا، الآن، فى هذا الميدان شوط كبير.