أيهما أجدى للفرد وللمجتمع: أن يظل الفرد على موقفه الأول ورأيه الأول عن موضوع ما، فلا يغيره إذا اكتشف معلومات تؤيد وجهة النظر المخالفة لوجهة نظره الأولى ولا يبدّله إذا تكشفت الأمور عن أشياء تدحض هذه وتعزز تلك؟ أم أن يغير موقفه وقناعاته بتغير المدخلات المشكلة لها والمعلومات التى بناها عليها؟ إذا انحاز الفرد إلى موقف الثبات على الرأى فسوف يُنعَت بلفظين أحدهما سلبى، وهو الجامد، وأحدهما إيجابى وهو الأصيل أو الثابت.. وإذا انحاز الفرد إلى موقف التغيير فسوف يُنعَت بلفظين آخرين، أحدهما سلبى وهو «المتحول» أو «المتلون»، والثانى إيجابى، وهو «المرن أو المتطور».. وما بين أن يكون الإنسان جامداً أو متلوناً، ثابتاً أو متطوراً، تحدث تفاضلات عديدة واختيارات متعددة، بعضها قد لا يكون مفيداً للفرد ولا نافعاً للمجتمع.. وفى كل الأحوال يحتاج المرء إلى بعض الشجاعة الأدبية ليعلن موقفه على الملأ..
الإمام الشافعى أحد أهم الأمثلة فى تاريخنا، ليس فى الاجتهاد الدينى فحسب، ولكن فى التدليل على فكرة التطور والمرونة فى مقابل الجمود والثبات.. قضى الإمام الشافعى عمره متنقلاً بين البلاد، ومنفتحاً على الثقافات، فكان «الإمام الرحالة»، إذ عاش فى مكة، ثم تركها إلى المدينة، ثم سافر إلى نجران باليمن فقضى بها سنوات عدة، ثم إلى بغداد، ثم إلى مكة، وأخيراً إلى مصر.. وفى كل مرة كان يعدّل ويطور فى مذهبه الذى وضع تصوره الكامل له فى بغداد.. حتى إذا جاء إلى مصر لم يجد حرجاً، وهو أعلم أهل الأرض حينذاك، فى أن يتراجع عن بعض آرائه، وأن يعدّل فى كثير من فتاواه السابقة.. ووصل به الأمر إلى أن يأمر بشطب كتبه التى ألّفها فى العراق، ويقول «ليس فى حلٍّ مَن روى عنى القديم».. ويقول الإمام النووى فى ذلك «كل مسألة فيها قولان للشافعى رحمه الله، قديم وجديد، فالجديد هو الصحيح وعليه العمل».. كثير من الناس يجدون حرجاً فى تغيير مواقفهم وآرائهم.. كثير من الناس تأخذهم العزة بالإثم، فيصرون على مواقف قديمة تحقيقاً للاتساق وإثباتاً لصحة المواقف السابقة.. غير أن الإمام الشافعى كان حريصاً على إفادة المجتمع أكثر من حرصه على صورته الذهنية، وكان غيوراً على العلم أكثر من غيرته على نفسه.. وليس هذا بغريب وهو القائل «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».. وهو القائل أيضاًَ «ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما فى قلبى من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلى»..
فى حياتنا المعاصرة نماذج عديدة للتغيير من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين والعكس.. خالد محمد خالد واحد من هؤلاء الأعلام الذين ملأوا حياتنا الثقافية علماً وأدباً.. بدأ حياته الفكرية وبدأت شهرته بكتابه «من هنا نبدأ» الذى طبع عدة طبعات فى عامه الأول، وكتاب «الديمقراطية أبداً» وغيرهما، واللذين كان يروج فيهما ويعبر عما يعتقده من أفكار ليبرالية، ثم ينتهى فى سنواته الأخيرة إلى آراء مناقضة تماماً للأولى، ويعلن رجوعه عن أفكاره الأولى وتبرؤه منها، بل ويؤلف كتباً يصحح فيه هذه الأفكار السابقة..
الدكتور زكى نجيب محمود، هو فى حياته كلها، ما عدا سنواته الأخيرة «معرب الوضعية المنطقية» والمعبر عن تيار الشك الأوروبى فيما يتعلق بالدين والروحانيات، حتى إنه ألّف أحد أهم كتبه «خرافة الميتافيزيقا».. كان زكى نجيب محمود يؤمن بالعلم الحسى، ويرى أن ما عداه «تهويمات وخرافة».. غير أنه فى سنواته الأخيرة يراجع كثيراً من آرائه السابقة، ويصدر عدة كتب «رؤية إسلامية»، «ثقافتنا فى مواجهة العصر»، وغيرهما من الكتب التى حاول فيها المصالحة بين التراث والمعاصرة، بين الماضى والحاضر فى تراثنا العربى.
حياة الدكتور مصطفى محمود من الشيوع والشهرة بحيث يمكن الإشارة الخاطفة إليها، وأنا على ثقة بأن القارئ يعرفها، استغراق فى الشك، واعتناق للإلحاد، ثم تحوّل إلى الدين، ثم مصالحة بين العلم والإيمان.. تحولات وتقلبات تعكس تطور العقل وتشكله، وتعكس الرغبة فى المعرفة بغض النظر عن رأى المحيطين به..
وأخيراً: سأل الأصدقاء جحا: «كم عمرك الآن يا جحا؟» فقال: «عمرى أربعون عاماً». وبعد عشر سنوات سألوه: «كم عمرك الآن يا جحا؟» فقال: «عمرى أربعون عاماً». فقال الأصدقاء: «منذ عشر سنوات قلت إن عمرك أربعون عاما، والآن تقول إن عمرك أربعون عاماً، فكيف ذلك؟» فقال جحا: «أنا رجل محترم، لا أغير كلامى، ولو سألتمونى بعد عشرين سنة فلن أغير كلامى»!!
ما دمت لا تتربح، وطالما تبتغى وجه الله، ولا تتربح، ولا تفسد، ولا تنافق، فأعلن عن رأيك حتى إن تغير.. إن التغيير هو الحقيقة الثابتة فى الحياة..