مجدداً، أدق ناقوس خطر السلطوية الجديدة فى مصر. مجدداً، وبعد أكثر من مقالة سابقة ومداخلات إعلامية متنوعة، أحذّر من إحياء صناعة مصرية عريقة هى صناعة الديكتاتور. مجدداً، أذكّر رئيس الجمهورية المنتخب أن الإرادة الشعبية الحرة التى جاءت به لن تقبل بالارتداد إلى عصور الزعيم الأوحد والقائد الملهم، وأن عليه أن يخشى غضبة المصريات والمصريين إزاء بعض ممارساته الراهنة. مجدداً، أدعو رئيس الجمهورية ألا يغتر بالحشود الإخوانية وبالسائرين فى ركاب الجماعة، فمصر مجتمع ودولة، ليست هؤلاء فقط وأبداً لن تكون. مجدداً، أقرر أن الدكتور مرسى انتُخب رئيساً انطلاقاً من رؤية سياسية هى مشروع النهضة ومن وعود انتخابية وبرنامج للـ100 يوم الأولى، وأن التقييم الموضوعى لأداء الرئيس وفريقه حتماً يرتبط بما تحقق وما لم يتحقق فى هذا الإطار. وعلى الرئيس وفريقه أن يحترموا القواعد الديمقراطية ويمتنعوا عن ممارسة سلطوية فى جوهرها تتمثل فى التشكيك فى وطنية أحزاب وقوى سياسية كثيرة تقيّم المدة المنقضية من الفترة الرئاسية على نحو سلبى.
فقد دلل مجمل مشهد استاد القاهرة فى ٦ أكتوبر على سلطوية تتجدد دماؤها وصناعة للديكتاتور لا تختلف فى تفاصيلها عن عصور الزعيم الأوحد فى مصر ودول أخرى كثيرة. الحدود الذائبة بين الدولة والرئاسة وبين جماعة الإخوان، الحشد الجماهيرى الإخوانى المجهّز سلفاً للتأييد وللهتاف، مصادرة مناسبة وطنية لنا جميعاً لصالح الجماعة وحزبها، جميعها ذات مضامين سلطوية واضحة. الرئيس وسيارته المكشوفة، الرئيس الذى تلبّس أثناء خطابه عباءة الزعيم، الرئيس الزعيم الذى تعامل مع الحشد الجماهيرى باستثارة شعوره الدينى ونوازعه الإخوانية طلباً للتأييد وصولاً إلى حد التماهى، جميعها تثبت بما لا يدع مجالاً للشك إحياء صناعة الديكتاتور وبأدوات لا تختلف عن ناصر فى الخمسينات والستينات ومبارك خلال العقود الماضية، بل ولا تختلف عن هتلر فى الثلاثينات (قارنوا بين الرئيس فى استاد القاهرة 2012 وبين هتلر فى استاد برلين 1938 مفتتحاً للألعاب الأولمبية) أو ستالين فى الأربعينات (احتفالات النصر السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية) أو القذافى وصدام حسين فى الثمانينات. المشهد الذى أنتجته دولة ورئاسة ذابت الحدود بينهما وبين الجماعة هو مشهد مرَضى بامتياز ويخيف لسلطويته الفاضحة، تماماً كصورة الرئيس الفارس على غلاف مجلة أسبوعية وكمقالات الرأى المبالغة فى ممالأتها للرئيس وكتشبيه الرئيس بالأنبياء الذى تتوسع فى توظيفه حالياً المواقع الإخوانية.
اغتر الرئيس المنتخب بالحشود الإخوانية وبالملتحقين بركب الإخوان ممن التحقوا دوماً بركب المنتصر/ الرئيس/ الحكومة/ حزب الحكومة. قد اغتر الرئيس بهذا وخطب فى الحشد الجماهيرى كرئيس سابق لحزب الحرية والعدالة ومرشح الجماعة الذى صار رئيساً، وليس كرئيس لكل المصريات والمصريين وفى مناسبة وطنية هى ملك لمصر كلها. اغتر الرئيس ومارس الاستعلاء على المعارضين، وشكك فى التزامهم الدينى، وهو الذى ينبغى أن يُنتقد لتوظيفه دور العبادة للخطابة السياسية. اغتر الرئيس بالحشود المجهّزة سلفاً للتأييد والهتاف وتناسى أن مصر ليست الجماعة فقط وأن المناسبة الوطنية كانت تقتضى منه مخاطبة مصر كرئيس لكل مواطنيها والانفتاح على المعارضة باحترام دون استعلاء أو تسفيه. وعليه أن يحذر من غضبة المصريات والمصريين الذين لا يريدون رئيساً يغتر بجماعته فقط ويذهب لدور عبادة الأغلبية ولا يزور دور عبادة الأقلية، ولا يريدون رئيساً يسفّه من معارضيه عبر التشكيك بهم ويعرض نفسه عليهم كالزعيم الأوحد والقائد الملهم.
أخفق برنامج الـ100 يوم الأولى للرئيس وكان الأجدر به، بدلاً من حديث النسب والأرقام التى لا يملك أحد التأكد من موضوعيتها، أن يعترف بالإخفاق ويحدد مسبباته والدروس المستخلصة منه. منذ اللحظة الأولى وأنا وغيرى نؤكد على أن وعود البرنامج غير واقعية، وأن الرئيس كان يستطيع فى الـ100 يوم الأولى أن يدرس المشكلات والأزمات الكبرى وقدرات ومعضلات الجهاز التنفيذى والإدارى للدولة ثم يعمل على صياغة خطة متكاملة تعرض على الرأى العام. منذ اللحظة الأولى وأنا أؤكد أن الأجدر بالرئيس مخاطبة المصريات والمصريين بصراحة وشفافية ودون مبالغات رقمية أو بالنسب ومطالبتهم بالعمل ثم العمل لإخراج مصر من أزمتها. منذ اللحظة الأولى والجميع، باستثناء الجماعة وحزبها، يدعو الرئيس وفريقه للتفاوض بواقعية مع المضربين والمعتصمين والمحتجين والبحث عن حلول فعلية حتى وإن طال مداها الزمنى. فى السياسة، أنجز الرئيس بإلغاء الإعلان الدستورى التكميلى خطوة بالغة الأهمية وأخرج الجيش من إدارة الدولة. إلا أنه لم يفِ بوعده المتعلق بإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية ولا بالإفراج عن المدنيين المحاكمين عسكرياً ولا بتجاوز الاستقطاب بين الأحزاب السياسية وجرّ خطوط فاصلة بينه وبين الجماعة وحزبها. بشأن كل هذه الأمور يحق لنا أن نمارس النقد الموضوعى تجاه الرئيس وفريقه، يحق لنا أن نرفع صوتنا كمعارضة وكرأى عام به قطاعات واسعة غير إخوانية الهوى. وواجب الرئيس ومن معه ومن حوله أن لا يتجاهلوا النقد أو يقللوا من شأنه بالاستعلاء على المعارضة وجموع غير الراضين. الأجدر بالرئيس هو احترام القواعد الديمقراطية والاعتراف بإخفاق برنامج الـ100 يوم الأولى وتطوير خطة متماسكة لفترته الرئاسية. إلا أن ماكينة السلطوية وصناعة الديكتاتور والاغترار بالحشود الإخوانية، التى يبدو أنها تمكنت مجتمعة من الرئيس، بالقطع ستحول دون ذلك.
السيد رئيس الجمهورية، انتبه واحذر غضبة المصريات والمصريين. فمصر لن ترضى أن تُدفع للوراء، ولن تستسلم بعد ثورة عظيمة لتجديد دماء السلطوية وصناعة الديكتاتور.