فى حلقة نقاش موضوعها (مصر المستقبل)، أدارها المنتدى الاقتصادى المصرى وشعبة المحررين الاقتصاديين بنقابة الصحفيين على مدار يومين، وحضرها جمع مختار من الاقتصاديين والسياسيين والإعلاميين، لم يختلف أحد على أن مصر التى يريدها الجميع ينبغى أن تكون دولة مدنية قانونية ديمقراطية، تقوم على الاعتراف بحقوق المواطنة للجميع دون أى تمييز فى الجنس أو اللون أو الدين، تحترم حقوق الإنسان المصرى، وتلتزم بمبادئ الدستور وتطبق حكم القانون على الجميع، وترعى معايير العدالة الاجتماعية بصورة تحفظ كرامة الإنسان، وتلتزم بحرية الرأى والصحافة وحق الاختلاف الذى ينبغى أن يكون جزءاً من شرعية الحكم، وتنهض فيها معارضة قوية تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وتتوازن فيها قوة المؤسسة العسكرية مع قوة مؤسسات المجتمع المدنى، بما يحفظ مدنية الدولة ويضمن تكامل كل قواها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وينهض بمسئولية العدالة فيها قضاء ناجز مستقل، ويتحدد فيها دور البيروقراطية الحكومية فى أن تكون خادماً للشعب وليست سيداً عليه، إلى آخر قائمة الأهداف والغايات التى يحددها دستور توافقى، حظى بأغلبية كبيرة تترجم إجماعاً وطنياً لا لبس فيه، لم يقف عند حدود الغايات النهائية للدولة لكنه شمل أيضاً المخاطر والشرور التى تقف حجر عثرة فى طريق هذه الغايات، وبينها شرور الإرهاب التى لا تزال تحاصر الوطن فى جبهته الشرقية فى سيناء وفى جبهته الغربية عند الحدود المصرية، وفى جبهة الداخل حيث لا تزال جماعة الإخوان تصر على توزيع قنابلها اليدوية الصنع على العديد من الأحياء والأهداف الخاصة والعامة، ابتداء من قطارات السكك الحديدية ومحطات المترو إلى زحام الناس الكثيف فى الموالد والمناسبات الدينية! صحيح أن تقدماً محسوساً حدث على الجبهات الثلاث، حيث يتم فى الجبهة الشرقية إنشاء المنطقة العازلة بطول حدود مصر مع قطاع غزة لتضع حلاً نهائياً لقضية الأنفاق التى تشكل خطراً حالاً على أمن مصر الوطنى، وعلى الجبهة الغربية حيث تمكنت قوات الجيش الليبى من استعادة مدينة بنغازى، وحاصرت قدرة الجماعات الإرهابية على تهديد الجبهة الغربية لمصر، وفى جبهة الداخل حيث تقلصت قدرة جماعة الإخوان على الحشد والتحريض فى الجامعات المصرية، لكن المشكلة أن أحداً لا يستطيع أن يقطع بوعد زمنى محدد يتم خلاله اجتثاث خطر هذه الجماعات، وكذلك الأمر مع قضية الفساد التى يعطيها الشعب المصرى أولوية خاصة، تطالب بسد كل الثقوب التى يتسرب منها الوباء، لكننا مع الأسف لا نزال نواجه قصوراً شديداً فى مواجهة أخطار الفساد، بسبب تضارب أجهزة الرقابة وتعددها ومعاركها الداخلية التى تلهيها عن مهمتها الرئيسية، فضلاً عن قصور التشريعات الراهنة التى لا تحاسب كل من يهمل أو يتواطأ أو يخفى قضية فساد!
لم يختلف أحد فى المؤتمر على غايات الدولة وأهدافها والمخاطر التى تهددها، لكن الخلاف تركز على وسائل وسبل تحقيق هذه الغايات وضمانات استمرارها، وأولوياتها المطلقة والنسبية، ومدى توافر الظروف والشروط التى تسمح ببزوغ هذا المستقبل من واقع صعب وعصى، يشكله حاضر يزدحم بمشكلات ومعوقات تشابكت عناصرها، وصفها رئيس الوزراء إبراهيم محلب بأنها جبال وعرة من المشاكل الكبيرة، وكما ترتبط صورة مصر المستقبل بالمعطيات الراهنة فى قضايا الأمن والاستقرار ومدى قدرتنا على اجتثاث جذور الإرهاب، وحجم النجاح الذى يمكن أن نحققه فى وقاية أجيال مصر الجديدة من أفكاره وأخطاره، خاصة الفئة العمرية ما بين 12 و18 عاماً التى تشكل صيداً ثميناً لهذه الجماعات، ترتبط صورة المستقبل أيضاً بقضايا عديدة أخرى، أهمها إصلاح التعليم بكل مفرداته بما يضمن تدريب الطلاب على استخدام عقولهم بدلاً من الحفظ والاستظهار، وإصلاح الخلل المريع الذى جعل معظم طلاب الثانوية العامة يتحولون إلى الدراسات الأدبية بدلاً من دراسات العلوم والطبيعة والرياضيات التى تصنع تقدم الإنسانية، وجعل الطلاب المنتمين للتعليم العام يفوقون أضعافاً عدد الطلاب الذين ينتمون إلى التعليم الفنى، ولا يقل خطورة عن ذلك أن سلم التعليم المصرى لا ينطوى على أى مؤسسات تعليم متميزة، تضمن للمتفوقين أن يكونوا ضمن النخبة الفاعلة المؤهلة لإدارة البلاد. وبين المشاكل التى تعيق رسم صورة صحيحة لمستقبل مصر، الحاجة إلى إصلاح مؤسسات الدولة بما يحقق استقلالها ويزيد قدرتها على تطوير نفسها، ويجعل الحساب والمساءلة والإثابة والعقاب أساس التقويم والتقييم لشخوص هذه المؤسسات وهيئاتها، والالتزام الصارم باحترام حقوق الإنسان المصرى، وإلزام البيروقراطية أن تكون خادمة للشعب وليست سيداً عليه، وتعزيز نزاهة الانتخابات المصرية بما يقطع علاقاتها بماضيها البعيد والقريب القائم على التزوير، والسعى إلى تحقيق وفاق وطنى حول قضايا ذات طبيعة استراتيجية يتجنب المجتمع مناقشتها، أخطرها ماذا نفعل حيال تجمع معارض مثل جماعة الإخوان المسلمين، تلجأ إلى العنف وتعيش بين ظهرانينا، وربما يتآمر بعض أفرادها على أمن الدولة واستقرارها؟ هل نحاربهم أم نصالحهم؟! وإذا كان تطبيق حكم القانون يصلح لأن يكون حكماً لكل من ارتكب جريمة فى حق وطنه، فكيف يكون التصرف مع عشرات الآلاف من المنتمين للجماعة الذين لم يثبت ارتكابهم لجريمة، هل نحاورهم أم نستبعدهم؟!
فى ظل هذه المعطيات يصبح من الصعوبة بمكان رسم صورة لمستقبل مصر، تحدد النموذج التنموى الأفضل، وتركز على المشروعات الأساسية التى سوف تنهض عليها عملية التنمية، وتحقق فرص النجاح والنمو للمشروعات الصغيرة والمتوسطة التى تؤكد الأرقام أنها تستوعب أكثر من 60% من قوة العمل المصرية، وتبتدع سياسات اقتصادية جديدة ترفع معدلات التنمية، وتحقق مطلب العدالة الاجتماعية، وتعالج مشكلات الاقتصاد الخفى الذى يشكل أكثر من 40% من حجم الاقتصاد الوطنى، نوع من الإبحار الصعب وسط أمواج متلاحقة وعواصف عاتية، خاصة أن غالبية المصريين بعد ثورتى يناير ويونيو يتوقون إلى رؤية نتائج يومية سريعة تقطع الطريق على أنصار الهدم، وتؤكد من خلال حقائق وخبرات محسوسة أن الغد سوف يكون أفضل من اليوم، وأن جودة الحياة تتحسن على نحو مطرد ومستمر، وأن ثقوب الفساد يتم سدها على نحو جاد، وأن هناك عقاباً صارماً لكل صور التسيب والإهمال، وأن المصريين يلقون معاملة أفضل فى المدرسة والمستشفى وقسم الشرطة ومكاتب الحكومة، وأن الآمال تكبر مع كل يوم جديد وتتجسد فى إنجازات متصلة تحدث تغييراً مستمراً فى واقعنا الراهن يلمسه المواطن أينما يدير وجه، ولأن غالبية المصريين يعرفون واقعهم الصعب، ويدركون المحددات الأساسية التى تضع سقفاً لطموحاتهم، فهم فى الأغلب لا ينتظرون تحقيق معجزات ضخمة تغير واقعهم بين ليلة وضحاها، لكنهم يريدون دلائل وأمارات وإشارات تضع حداً لتساؤلاتهم اليومية، مصر إلى أين؟ وتؤكد لهم أن مصر على الطريق الصحيح وأن الشواهد من حولهم تثبت ذلك. لكن الفيصل النهائى فى تحديد صورة مصر يتعلق بمدى قدرة المصريين على تغيير واقعهم وحرصهم على كسب معركة التحديات التى تواجههم خاصة معركة الإرهاب، والأمر الذى لا شك فيه أن شعباً أسقط نظامين للحكم وحاكم رئيسين على تهم عديدة تتعلق بقتل المتظاهرين وإشاعة الفساد والاستحواذ على السلطة وتغيير هوية الوطن، ووصل بعضها إلى حد التآمر والخيانة، هو شعب قادر على حسن الاختيار والتمييز، يؤكد ذلك نجاحه فى إسقاط حكم جماعة الإخوان بعد عام واحد من حكمها، وتوحد كل مؤسساته فى جبهة واحدة لمقاومة الإرهاب تؤكد عزم المصريين، فضلاً عن مؤشرات الثقة المتبادلة بين الجماهير والقيادة السياسية التى حققت إنجازات مهمة على خارطة الطريق، أدت إلى انتخابات رئاسية نزيهة جاءت برئيس يريده الشعب ويثق فى وطنيته، وأنجزت دستوراً توافقياً جمع المصريين على غايات وأهداف واضحة تحكم دولتهم، ووضعتهم على مشارف انتخابات برلمانية تستكمل خارطة الطريق ببرلمان جديد يمثل قوى المجتمع المصرى، يترجم أهداف ثورتى يناير ويونيو فى خطة تنمية تلتزم مبادئ العدالة الاجتماعية، ويحيل مبادئ الدستور إلى قوانين جديدة تساعد على رسم مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً لمصر.