لماذا يرجو بعض الناس أو يتمنون لآخرين الموت بينما لم تربطهم معاً علاقة أو وقع بينهم إصابة أو ضرر مباشر أو غير مباشر؟ لماذا يستثقل البعض حضور غيره فى الحياة ويسخر من هذا الوجود، مدعياً أنه قد تجاوز مدة صلاحية الحياة وحان وقت رحيله ويلزم إنهاء وجوده؟
قد يتخذ الأمر شكل الدعابة والتفكه، لكن الحقيقة أنها كانت رغبة واضحة عند قطاع واسع من الناس فى حالة المطربة صباح التى صارت شائعات وفاتها كثيرة جداً كترجمة لهذه الرغبة. لم تصدر هذه الرغبة عن منافسين لها؛ إذ لم تعُد تشكل خطراً ولا منافسة لأحد منذ عشرات السنين.
كانت السمة الرئيسية لـ«صباح» أنها تعيش حياتها مبتهجة وتستمتع بها تماماً وحتى الثمالة، دون تسليم أو استسلام للزمن أو إقرار بالعرف السائد أو بضغوط الرأى العام حول ما يتعلق بالسن والعمر وما يجب فعله أو ما يجب أن تتجنب فعله المرأة العجوز.
وكان سلوكها فى حياتها هو ترجمة لتلك المعانى التى عبرت عنها فى أغانيها التى تجاوزت ثلاثة آلاف أغنية، وهى تحرِّى الندية فى علاقة المرأة بالرجل وكشف حيله وألاعيبه وفضح حاجته إليها وحبه لها بطريقة تمتلئ بالدعابة والدلال والغنج والإثارة فى أحيان غير قليلة، ثم التعبير عن حبها هى بطريقة لا تعتمد التسليم ولا الاستسلام ولا الضعف ولا الحزن على عكس مجايليها من المطربات، إنها هى التى كانت تختار كلماتها، وكانت هذه الكلمات تعبيراً عنها وعن الحضور الأنثوى والحيوية والبهجة والفرح الذى ظلت تتلمسه فى حياتها الشخصية حتى النهاية وفى وصيتها. وفى حقيقة الأمر فلا يمكن اعتبار صباح إلا متمردة من نوع ما، خاصة فى الثلث الأخير من عمرها، ولا شك أنها بأغانيها وبسلوكها ومناغشاتها ورغباتها ومخالفتها الرأى السائد والعرف الاجتماعى أثَّرت وستؤثر كثيراً فى قطاع من النساء، وبانت قوتها فى عدم خضوعها للسخرية منها ومن تصرفاتها ومن شائعات وفاتها فى رسالة قاسية من بعض المجتمع يعلن رفضاً واضحاً واستنكاراً معلناً لأفعالها وتذكيرها عملياً وبإيلام بقرب الأجل، لكنها أبدت دائماً تحدياً مستمراً فى مظهرها وملابسها وألوانها وأفعالها، كما أبدت إنكاراً للزمن، وأتصور أنها أدركت الزمن عندما أشيع أنها ستتزوج الشاب ملك جمال لبنان فردت أنها كانت ستفعل ذلك لو أنها أصغر قليلاً! وهى بهذا تلفت النظر إلى أن الزمن قد يكون فكرة فى رؤوسنا أكثر مما هو حقيقة فى الواقع! ولا يخلو ردها هذا من التحدى والإصرار والقوة والرغبة.
هذا التمرد كان أيضاً فى صوتها الذى وجد الملحن الكبير رياض السنباطى صعوبة فى تطويعه كصوت جبلى عندما كان يدربها فور وصولها إلى مصر عندما استدعتها المنتجة آسيا لعمل فيلمها الأول.
وكانت طريقتها فى الغناء لا تخلو من تمرد على السائد. يقول نجيب محفوظ إنه لم يحذف أى مشهد سينمائى وقت عمله كرقيب إلا كلمة كانت تغنيها صباح ووجد أن أداءها كان فيه من الإثارة أكثر من المعتاد!
وكان سردها لبعض حياتها لا يخلو من تحدٍّ واضح وجديد على فنانة عربية؛ إذ اعترفت بخيانتها لبعض أزواجها كما خانوها.
إنها تهدم نسقاً قيمياً وأخلاقياً معتاداً وثابتاً فى المجتمع العربى بمثل هذه الأعمال والأقوال غير المعتادة، ما سبَّب صدمة واستنكار قطاع عريض من المجتمع، ما دفعه للانتقام برغبته فى موتها والسخرية من أفعالها ومن طول عمرها.
وهذا الانتقام ليس دفاعاً عن الأخلاق، بل هو فى جوهره رد على التحدى وغيره من استقلالية وقوة، كما أنه يعكس إحساساً بالعجز فى تحقيق ذات مماثلة لها هذه الحرية والقدرة على الفعل المغاير فى مواجهة ضغط مجتمعى، إنها غيرة من حياة كاملة عاشتها.
يقول مارك توين: إن الإنسان الذى عاش حياة كاملة يكون مستعداً للموت فى أى وقت، وكانت صباح قد استقبلت الموت بقبول واستعداد لأنها -كما قالت- تعبت أو شبعت.