ليس هناك أسوأ من أن يتحول كل شىء فى حياتنا إلى «موضوع عميق جداً» يحتاج إلى محللين على أعلى مستوى من التقعُّر والحذلقة لتفسيره، وما إن تسمع التفسير حتى تغيم الرؤية وتفقد البوصلة وتجد نفسك وسط أمواج متلاطمة من الشك والريبة وانعدام الفهم.
منذ الساعات الأولى من صباح أمس، الجمعة، تسبب الحشد الإعلامى المكثف لمظاهرات حمَلة المصاحف المنتظرة فى إصابة البعض بحالة من التساؤل الكثيف: أين هى المظاهرات الحاشدة التى لن تُبقى ولن تذر؟ وأين هم حمَلة المصاحف والأسلحة والقنابل؟ وهل شربت الدولة المقلب ورفعت درجة الاستعداد إلى أقصى حالاتها جرياً وراء دعوة وهمية افتعلها الإخوان لإرهاق كل أجهزة الدولة؟ ثم أخذت الأسئلة منحى آخر: أليس من الوارد أن تكون الدولة العميقة هى التى صنعت هذا الوهم، لكى تعثر على مبرر كاف لنشر قوات الجيش والشرطة فى كل مكان قبل 48 ساعة من النطق بالحكم على الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى قضية القرن؟ وإذا كان هذا أمراً وارداً، ألا يُعد هذا علماً مسبقاً بمضمون حكم قضائى المفروض أنه فى علم الغيب وفى وجدان هيئة المحكمة فقط؟.. والأهم من هذا كله.. أليس هذا دليلاً دامغاً على نية الدولة العميقة فى تبرئة الرئيس الأسبق لمجرد أنه -قبل كل شىء وبعده- كان رمزاً كبيراً من رموز هذه الدولة؟.. وأن هذه النية هى السبب الرئيسى فى خوف أجهزة الأمن من رد فعل شعبى غاضب يستغله الإخوان والجبهة السلفية وينخرطون فى صفوفه لإشعال الفوضى فى مصر؟
والحقيقة أن هذه الأسئلة التى عجز كثيرون من المتحذلقين والمتقعّرين عن الإجابة عنها هى أسئلة صاغتها الميليشيات الإلكترونية للجماعات الإرهابية لكى تفرض علينا أن نفكر بعيداً عن السياق الأصلى للقضية الأساسية، وأن نبتعد قدر الإمكان عن إدراك الموقف الراهن الذى تعيشه المنطقة العربية كلها، وفى القلب منها مصر، وهو موقف شديد الخطورة، تتجلى أبعاده المخيفة والمرعبة -كما نشاهد ونسمع ونعرف- فى ليبيا وسوريا والعراق واليمن، التى انهارت جيوشها بفعل فاعل قادر ولئيم، وتغولت فى أنحائها جيوش كافرة جوالة، تملك أحدث الأسلحة وتقتل وتذبح وتغتصب الشيوخ والنساء والأطفال وتهدم البيوت على ساكنيها وترميهم دون رحمة للتشرد على الحدود بعد أن تنتقى منهم أجمل الصبايا للبيع فى أسواق النخاسة.
هذا يا سادة هو السياق الأصلى للموضوع، وأى خروج عن هذا السياق لا يمثل فقط عواراً فى الرؤية أو خطأً فى التحليل والفهم، ولكنه أيضاً يمثل جريمة مكتملة الأركان فى حق هذا البلد وهذا الشعب، لأنه يصرفه عن إدراك حقيقة الوضع الذى يأخذ بخناق المنطقة كلها ويهدد بإغراقها فى فوضى جنونية لن نعثر فيها على أى أثر للرحمة.
تلك هى القضية يا سادة، ولا قضية غيرها الآن، وهناك عشرات الدلائل المتاحة على أننا جميعاً فى مصر وفى كل الدول العربية نمر بواحدة من أبشع الحروب فى تاريخنا، لأن العدو الخارجى الذى يمول الحرب يستخدم جماعات وميليشيات تنتمى إلينا وتتحدث بلغتنا وتختبئ خلف نصوص من ديننا.. وصفحات الإخوان وبيانات الجبهة السلفية كانت شديدة الوضوح خلال الأسبوعين الماضيين فى التحريض العلنى على «الجيش المصرى» وفى الإعلان عن انتهاج العنف المسلح لتطبيق ما يزعمون -كذباً- أنه شرع الله.
وأخيراً يبقى سؤال شديد الأهمية أتوجه به إلى هؤلاء الذين سخروا من الدولة العميقة لأنها شربت المقلب وأعلنت حالة الطوارئ القصوى، ثم لم تعثر لحمَلة المصاحف على أثر: ماذا لو كان الإخوان وأنصارهم قد نفذوا ما هددوا به فعلاً.. وخرجوا علينا بمسيرات المصاحف والقنابل، ثم لم نعثر للدولة على أثر فى الشوارع والميادين؟ ألا يُعد هذا التصرف إهمالاً إجرامياً ستقوم له دنيا المتحذلقين والمتقعرين؟ والخلاصة التى أتمنى أن تظل باقية فى أذهاننا هى أن الدولة تصرفت التصرف السليم والمنطقى، واستعدت للحدث بما يستحقه، وكان هذا الاستعداد هو التفسير الوحيد لغياب المسيرات الضخمة ودخول الإخوان إلى الجحور انتظاراً لغفلة مقبلة من الأجهزة الأمنية.