خلال الأيام الثلاثة الماضية اصطدمت صناعة الاستبداد فى مصر بموجتى مقاومة متعاقبتين، أحسب أن تداعياتهما ستكون على درجة عالية من الأهمية وستعيد توزيع الكثير من الأوراق فى حياتنا السياسية بشأن العلاقة بين الحكم والمعارضة.
اختزل رئيس الجمهورية كارثة العدالة الغائبة منذ ثورة يناير وحقوق الشهداء المهدرة وحق المجتمع العام فى محاسبة المتورطين فى القتل والعنف إلى مكون وحيد، هو عزل النائب العام.
وتورط رأس السلطة التنفيذية، ومعه بعض أعضاء الفريق الرئاسى والحكومى وبينهم قضاة تزعموا تيار الاستقلال، فى العبث باستقلالية السلطة القضائية وفى مخالفة قاعدة دستورية مستقرة تقضى بعدم جواز عزل القضاة، والتى تنطبق أيضاً على منصب النائب العام.
لم يصدر الرئيس قراراً بإقالة النائب العام لأن القانون لا يمكنه من ذلك، بل تحايل على القانون بتعيين النائب العام سفيراً بالفاتيكان والضغط عليه (إلى حد التهديد لو صحت تصريحات النائب العام) للرضوخ للأمر. ولم يكن الرئيس هنا إلا متحايلاً على القانون ومتجاوزاً لقاعدة دستورية مستقرة، وممارساً لجور السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
ومع أن للرئيس من الصلاحيات ما يتيح له التعامل الجاد مع كارثة العدالة الغائبة بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية (بفريق قضائى وفريق فنى) وتمكينها من إعادة التحقيق وإعادة جمع الأدلة فى قضايا قتل المصريات والمصريين وأحداث العنف، إلا أنه وبأفق سياسى ضيق استسهل ممارسة الاستبداد وتجاوز القانون واختزل الأمر إلى إقالة النائب العام.
واجب الرئيس -وهو ترجمة الرفض الشعبى المشروع لمسلسل «الأدلة غير كافية» المستمر إلى عمل سياسى مسئول- كان يقتضى (وما زال) تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وليس مجرد الضغط على النائب العام وتهديده.
إزاء ممارسة الاستبداد الرئاسية انتفضت السلطة القضائية فى موجة مقاومة ومواجهة، وانتفضت بكامل أطيافها وتياراتها. تضامن القضاة، وبغض النظر عن المواقف السياسية والشخصية، مع النائب العام، ووصفوا محاولة عزله بالتدخل السافر للسلطة التنفيذية.
لم يختلف هنا قضاة الاستقلال عن غيرهم، الجميع أطاح بالسياسة جانباً وانتفض للدفاع عن السلطة القضائية والقواعد الدستورية المستقرة. ولم يعد أمام الرئاسة من خيارات إلا التراجع وممارسة التجميل السياسى.
.. ونكمل غداً