لم يكن أمامه خيار، لقد أصابه الإحباط من الظروف المحيطة، حذر وأنذر، لكن أحداً لا يريد أن يسمع، قالها «أبومازن» أكثر من مرة: احذروا غضبة الشعب الفلسطينى، أنا لن أقبل بالحالة الراهنة أبداً، سأستخدم كل الأوراق التى أملكها من أجل شعبى وحقوقه المهدرة.
قبيل أن يذهب إلى الأمم المتحدة فى نوفمبر من عام 2012، تلقى الرئيس الفلسطينى محمود عباس تهديدات جادة وصريحة من الرئيس الأمريكى أوباما، لكن «أبومازن» لم يكترث ولم يتراجع، بل مضى إلى منبر الأمم المتحدة ليحصل وللمرة الأولى على قرار بأغلبية 138 عضواً لصالح قرار يقضى بمنح فلسطين صفة دولة مراقب فى الأمم المتحدة. فى هذا اليوم وقف الرئيس محمود عباس يتحدث من على منصة الأمم المتحدة، داعياً العالم إلى تصحيح الظلم التاريخى الذى لحق بالشعب الفلسطينى، وقال: «إن اللحظة حانت ليقول العالم كفى للاحتلال والاستيطان الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية المحتلة». كانت الخطوة هامة وضرورية، صحيح أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو قال: «إن هذه الخطوة لن تغير شيئاً على الأرض»، إلا أن الواقع أكد أن قرار الأمم المتحدة بعث الأمل من جديد فى نفوس الشعب الفلسطينى، وفتح الباب واسعاً أمام المزيد من الخطوات على طريق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
ومنذ هذا الوقت بدأت حكومة «إسرائيل» فى حملة واسعة للتحريض ضد الرئيس «أبومازن» قادها رئيس الحكومة «نتنياهو» ووزير الخارجية «ليبرمان» وكبار قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وأصبح «أبومازن» مستهدفاً بالقتل بعد أن وصفه ليبرمان بأنه إرهابى. يسعى إلى تقويض الدولة الإسرائيلية.
كانت المعركة الثانية التى خاضها «أبومازن» هى معركة انضمام دولة فلسطين إلى العديد من المنظمات الدولية، خاصة بعد فشل مفاوضات إطلاق الأسرى الفلسطينيين فى جولتها الثالثة، كان «أبومازن» حاسماً فى موقفه، وأعلن انضمام فلسطين لخمس عشرة منظمة دولية، وهو أمر أثار ردة فعل عنيفة لدى صناع القرار فى واشنطن وتل أبيب، فازدادت حدة التهديدات والإنذارات، لكن الرئيس محمود عباس كان حاداً فى كل تهديداته، فراحت واشنطن تسعى إلى إطلاق وعودها بالحل وطلب فرصة من الوقت.
أدرك «أبومازن» بعد مذبحة «غزة» الأخيرة وما خلفته من موت ودمار شمل أنحاء القطاع أن الفلسطينيين لن ينالوا حقوقهم إلا بأيديهم، وأنه أعطى الفرصة تلو الأخرى للولايات المتحدة والمجتمع الدولى، إلا أنه لم يجد آذاناً صاغية.
كانت رسالته للأمة العربية أمام اجتماع وزراء الخارجية العرب فى 26 نوفمبر من العام الماضى واضحة: لا خيار إلا خيار الانسحاب وإقامة الدولة. وخلال هذا الاجتماع أصدر وزراء الخارجية العرب قراراً يقضى بدعم تحركات الرئيس الفلسطينى على الساحتين الإقليمية والدولية لاستصدار قرار من مجلس الأمن يضع سقفاً زمنياً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى، ودعم تأييد إقامة الدولة المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشريف.
كان هذا التفويض بمثابة رسالة للمجتمع الدولى حملها الوفد الأردنى إلى مجلس الأمن فى صيغة مشروع قرار عربى موحد، إلا أن الرئيس الفلسطينى كان على ثقة أن أمريكا سوف تستخدم حق الفيتو فى مواجهة مشروع القرار.
وقد هدد «أبومازن» بأنه إذا ما استخدمت الإدارة الأمريكية حق النقض (الفيتو) فإنه سوف يلجأ إلى ضم دولة فلسطين إلى العديد من المنظمات الدولية وفى مقدمتها اتفاقية روما والتى تمنح فلسطين الانضمام إلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية. ورغم حالة الانزعاج التى تركها تهديد «أبومازن» فإن واشنطن مضت فى طريقها واستخدمت حق الفيتو فى جلسة مجلس الأمن التى انعقدت لبحث مشروع القرار فى الثلاثين من ديسمبر الماضى. وبالرغم من أن مشروع القرار كان يدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة بعد 1967، وفى مقدمتها الضفة الغربية والقدس الشرقية، وإقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2017، فإن الولايات المتحدة ومعها أستراليا صممتا على رفض المشروع وتحدى إرادة المجتمع الدولى. كان طبيعياً فى ضوء هذا الموقف المعادى أن يلجأ الرئيس «أبومازن» إلى التوقيع على اتفاقية «لاهاى» وعشرين اتفاقية دولية أخرى، مما أثار حالة من الهلع لدى قادة إسرائيل والولايات المتحدة، فتصاعدت لغة التهديد والوعيد، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلى «نتنياهو» راح يدعو المحكمة الجنائية الدولية إلى رفض الطلب الفلسطينى بالانضمام إليها، بزعم أن السلطة الفلسطينية ليست دولة بل كيان متحالف مع تنظيم «إرهابى» هو حركة حماس التى ترتكب جرائم حرب!!
ووعد «نتنياهو» بخطوات للرد على «أبومازن»، وتعهد بالدفاع عن الجنود الإسرائيليين من أى مقاضاة محتملة، وقال إن المحكمة الجنائية قد تستهدف الفلسطينيين أيضاً على خلفية اتفاق الوفاق الوطنى الذى أبرمه محمود عباس مع حركة المقاومة الإسلامية «حماس». وقد قامت إسرائيل على الفور بتجميد إيراد الضرائب المحصلة لصالح السلطة الفلسطينية والبالغ متوسطها نحو 175 مليون دولار شهرياً يخصص لصالح صرف الرواتب الفلسطينية، كما أن الولايات المتحدة هددت بقطع المساعدات السنوية عن الحكومة الفلسطينية فى خطوة تُعد تصعيداً للهجمة الأمريكية على الشعب الفلسطينى وقيادته الشرعية.
لقد تعهد الرئيس أبومازن بالاستمرار فى موقفه حتى اللحظة الأخيرة، إنها رسالة لكل من يعنيه الأمر، وهى بقدر ما هى تعبير عن حالة الإحباط من موقف الولايات المتحدة، فهى أيضاً تأكيد على الأمل الذى عبّر عنه أبومازن فى خطابه الهام الذى ألقاه أمام مؤتمر إعمار غزة الذى عُقد مؤخراً فى القاهرة، فى تحرير فلسطين من نير الاحتلال الصهيونى البغيض.
إن معركة فلسطين الجديدة «الشعب والقيادة» سوف تدوى آثارها عربياً وإقليمياً ودولياً، خاصة أن هناك تغيراً كبيراً فى الرأى العام الغربى تمثل فى اعتراف العديد من البرلمانات الأوروبية بدولة فلسطين، ومطالبتها إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة.
لقد وضع «أبومازن» أمريكا وإسرائيل فى مأزق كبير أمام الرأى العام، ولذلك لم يعد أمامهما سوى خيارين:
- إما الانصياع والإقرار بحقوق الشعب الفلسطينى.
- وإما اغتيال الرئيس «أبومازن» لتبدأ بعد ذلك الفوضى العارمة فى العالم بأسره، والتى سيدفع ثمنها الأمريكيون والصهاينة قبل الآخرين.
وبين هذا وذاك، لا يوجد خيار ثالث، لقد مضى الزمن الذى يمكن أن يصمت فيه الجميع!!