كان سيد قطب المرجع الرئيسى للتيارات الإسلامية السياسية واضحاً تماماً فى عمدة كتبه ونظريته «معالم فى الطريق»، أن «الجاهلية» تشمل العالم كله، بما فيه هذه الدول التى تُسمّى بالإسلامية، وهؤلاء الذين يسمّون أنفسهم مسلمين، هم أيضاً جاهليون مثل كل ما ليس مجتمعاً مسلماً على هواه يقول: (نحن اليوم فى جاهلية، كالتى عاصرها الإسلام أو أظلم، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شعائرهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً هو من صنع هذه الجاهلية).
ولا بد لنا لكى نكون مسلمين يعترف بهم «سيد» وأبناؤه وأتباعه أن نتخلّص من كل هذه الآثار الجاهلية التى نعيش فيها ونستمد منها. وأن (نرجع بشعور التلقى للتنفيذ كالجندى) ونعود (للنبع الخالص.. النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشُبه شائبة)، وهو يقصد الصحابة وفترة الإسلام الأولى، ومنه نستمد تصورات الوجود والأخلاق والقيم، وأيضاً (منهاجاً للحكم وللسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة)، وقد بينّا قبلاً كيف أن النبع هذا رفع السيوف على بعضه، «عمر» رفع ضد «علىّ» وصحبه من أجل مبايعة «أبى بكر» ثم كُثر ضد «عثمان» وقتلوه، ثم معارك «علىّ ومعاوية» وكلهم من النبع الخالص.
فهل هذا منهاج السياسة والحياة الذى يريدنا «سيد» أن نعمل به، والذى تفعله جماعاته حاملة أفكاره الدموية الآن فى كل مكان وموضع تتمكن منه؟
ثم إنه لم يقص علينا سيرة عبدالله بن عباس، أحد رواة الحديث وأحد ولاة «علىّ» عندما طالبه الأخير بتقديم حساب بيت المال بعد ما سمعه عنه، فرفض راوى الحديث «عبدالله»، وهدّده أن يذهب بهذا المال إلى «معاوية» يقاتله به إن لم يتركه، فهل هذا هو منهاج السياسة المضمون الذى يريدنا «سيد» أن نتبعه؟
ويصف لنا كيف أن الملائكة كانوا يحيون معاً على الأرض فى ذلك الزمان (وتطهّرت النفوس والأخلاق، دون أن يحتاج الأمر إلا فى الندرة النادرة إلى التعزيرات والحدود، لأن الرقابة قامت هناك فى الضمائر، ولأن الطمع فى رضا الله وثوابه والحياة والخوف من عقابه قد قاما مقام الرقابة والعقوبات.. لقد أقاموا الدين فى ضمائرهم فى صورة عقيدة وخلق وسلوك)!
والآن، وبعد دعواه تلك، نشأت بنوك خصيصاً لتحمل صفة الإسلامية، ففشلت وسارت سيرة البنوك الأخرى لتربح وفقاً للتطور العلمى فى الاقتصاد، الذى يواكب التطور فى الحياة.
الغريب أن سيد قطب يرفض أن يقدم لنا دليلاً أو تفصيلاً أو حتى خطوطاً عامة للمستقبل معه، يعطينا الأمل والرجاء للخلاص من التخلّف والاحتياج إلى الكافرين والجاهليين (الذين هم نحن أيضاً)، ولا يروِ عطش أحد للمعرفة والإجابة المنتظرة عن المجتمع الذى يريده، وتبعته فى ذلك جماعة الإخوان، التى أخذت عنه ورفضت صياغة برنامج حتى صارت على عتبة السلطة.
وهو يصر ويؤكد ضرورة عدم الخضوع لطلب من يطلب المعرفة، لأن هذا الدين ليس نظرية جاهزة، بل منهج متحرك مع الواقع وحسب الأحوال، وطبعاً ليس هناك من سيحرّكون الدين الزئبقى هذا مع الواقع على الوجه الأمثل إلا هو وتابعيه من بعده، فيقول (يجب أن ندرك خطأ المحاولة وخطرها معاً فى تحويل العقيدة الإسلامية الحية التى تحب أن تتمثل فى واقع نامٍ حى متحرك، وفى تجمع عضوى متحرك.. تحويلها عن طبيعتها هذه إلى نظرية للدراسة والمعرفة الثقافية، لمجرد أننا نريد أن نواجه النظريات البشرية الهزيلة بالنظرية الإسلامية).
ويهددنا أن نوقف عقولنا، ونسلم له ونعيش حياتنا كالجنود نتلقى الأوامر فى مجتمع لا ندرى عنه شيئاً إلا أوهاماً فى رأس صاحبها ومن تبعه، عن تاريخ ليس حقيقياً كما يزعمه، بل ويريد إعادته!!