هل كان الشاعر جمال بخيت هو زرقاء اليمامة المصرى الذى شهد الكارثة قبل الجميع وارتعش من النبوءة التى كان يراها مجسدة أمامه من لحم ودم، ورجال القبيلة سكـارى بخمر العـادة ونشوة الخضوع ولـذة المهانة؟!، هـذا ما رددته لنفسى بعد قراءة ديوانه البديع «دين أبوهم».
لم يختر جمال العامية، بل هى التى اختارته ليقترب من البسطاء ويغنى لهم لا عليهم، والمدهش أن جمال لم يكن مرآة عاكسة لما يحدث أو مجرد «جبرتى» يرصد الملامح ويرسم بورتريهاً دقيقاً للوطن فحسب، ولكنه كان جرس إنذار وراداراً لاقطاً وصرخة وجع تطلق حتى قبل أن يولد الورم ويضغط على الأعصاب ويأكل اللحم والعظم.
لم يقنع جمال بشعر النصف لسان، لم يقنع بدور المجند فى كتيبة الكتبة وحَمَلة المباخر، بل تقدم الصفوف وكما تنبأ بالثورة حرّض عليها أيضاً، تقرأ الديوان فتقتنع بأن مصر الولاّدة لا يمكن أن يصيبها العقم، فطابور شعراء العامية ينضم إليه كل فترة مبدع يلمس بعصاه السحرية قلب مصر فتنتفض من جديد، وجمال بخيت هو ساحر مبدع من هذه القبيلة التى تضم بيرم وجاهين وحداد والأبنودى والتى شكلت وجداننا عبر الفن والجمال.
تعالوا نقرأ ديوان «دين أبوهم» لنرى التأريخ شعراً والشعر تأريخاً، أعرف أن المتعة لا تكتمل إلا بسماع القصيدة وهى تولد من رحم حنجرة جمال بخيت والذى يلقيها وكل خلجة من جسده تنتفض أنغاماً وأبياتاً وقافية وإحساساً، ولكن هناك ميزة تعوضك عن غياب صوت وإلقاء جمال وهى أنه يزرع فيك إحساساً غامضاً بأنك من الممكن أن تكتبها وتغنيها ولو بحنجرة مشروخة أو مبحوحة، إنك مع شاعر لا يتعالى عليك بل يتأبط ذراعك وعلى أقرب قدرة فول يقتسم معك الرغيف والضنى والضحك وأيضاً الدموع.
كنت أتمنى أن تتسع المساحة للديوان كله ولكن كما تعبر النواة عن الذرّة ستعبر هذه القصيدة القصيرة عن روح الديوان:
الواد كبر /تجيبوله جيش.. هايطوره /تجيبوله عصر من الجهاله / ينوره / تجيبوله سد.. / بطرف إيده.. يهندسه / الواد فهم / من غير ماحد يعلّمه معنى العلام / من قعدته ف مجلسى / درس الحروب قبل السلام / هضم المذاهب كلها / سرّبت له بين السطور / علم النفور والانسجام / علمته ينظر للبشر / وف عينه مليون اتهام / يرمى بذور الخوف ف دقة قلبهم / ومن الوشوش / يحصد نسيم الابتسام / الواد كبر.. / وكبر معاه وطنه الأشم / الواد كبر ولازم له هم / ولازم له قصر / ولازم له عرش وصولجان / وحدود وحاشية ومهرجان / ممكن كمان / سيرك وجنينة حيوانات / سجن ومعارضة.. وتضحيات / وحزب من أهل الكلام / يدبّجوله ف الخطب / ويحفّظوه بعض النصوص / وهيلمان وزرا ولصوص / شوية منهم يسرقوا / وشوية ياخدوا حقهم / لما يوزع ف الوطن ويفرّقه / قلب الوطن.. لجل التخين / راس الوطن.. لجل الكهين / داعر لطيف / أكبر حرامى ومدّعى أنه الشريف.