هذا استطراد لسطور فى فلسفة الثورة أو النظرية العامة للثورات، وقد أسلفنا بعضاً من المفارقات.. وهنا تكملة..
■ ■
المفارقة الثامنة تقع فى دائرة التنافس الثورى؛ ذلك أن عدداً من الثورات قد اصطدمت بالأخرى، وأن ثورات قد واجهت ثورات مجاورة أكثر مما واجهت الرجعيين والمعادين.
والمثال الأشهر عالمياً هنا هو ذلك الصراع الطويل بين الثورتين الشيوعيتين الروسية والصينية.. والمثال الواضح عربياً تنافس الثورتين المصرية والجزائرية لبعض الوقت، وصدام الثورتين المصرية والعراقية، وحرب الثورتين الإيرانية والعراقية.
ويشهد «كريم مروّه» أن الشيوعيين العراقيين حلفاء عبدالكريم قاسم تمادوا فى العداء للتيار القومى كرد فعل على موقف «عبدالناصر» السلبى من النظام الجديد ومن الشيوعيين خصوصاً، وكان «عبدالناصر» قد بدأ يصطدم مع الشيوعيين السوريين والمصريين فى ظل الوحدة بين مصر وسوريا.
ويذهب فتحى الديب، أحد مؤسسى جهاز المخابرات المصرية، إلى أن التيار البعثى قد واصل عداءه لنظام الثورة المصرية حتى حاول «صدام حسين» اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر.
يقول فتحى الديب، الذى أذاع للمرة الأولى تفاصيل هذه المحاولة فى مقالة نشرها فى الذكرى الحادية والثلاثين لرحيل الرئيس «عبدالناصر»: «إن البعثيين العراقيين قد شكَّلوا خلايا فى القاهرة يصل عدد أعضائها إلى أكثر من (700) شاب وفتاة، ومعظمهم قد جاء بحجة تلقى العلم والدراسات فى جامعات مصر ما بين القاهرة والإسكندرية، وكانت كل خلية لا يزيد عددها على عشرة أفراد، وكان من بين مهام هذه الخلايا: خلق نوع من البلبلة فى أوساط المصريين الغاضبين إثر هزيمة 1967، وقد انخرط بعض المصريين فى حزب البعث ومن بينهم كتاب وشعراء ونقاد.
وكان من عناوين منشوراتهم: (سيتحقق الحلم البعثى فى مصر بعد أن كان يعتبره البعض خرافة مستحيلة)، وبالطبع فقد كانت هناك أموال تُضخ على شكل مساعدات تشجيعية وهدايا من العراق لتكريم المبدعين من الشعراء والكتّاب والنقاد. وقد تدرب أعضاء التنظيم على استخدام السلاح فى مناطق صحراوية بغفلة عن المخابرات المصرية.
تم اختراق التنظيم البعثى فى مصر باستخدام بعض أعضائه من البعثيين أنفسهم، فتمت معرفة أسمائهم جميعاً وأماكن تحركاتهم، اتصلت بالرئيس عبدالناصر ثم ذهبت إليه فى بيته، وقبل أن يتناول الإفطار رويت له تفاصيل المؤامرة، وفيها عملية اغتيال عبدالناصر نفسه.
لم يصدق عبدالناصر بل شكك فى الأمر؛ فآخر ما كان يتصوره أن يلعب البعثيون فى عقر الملاعب الناصرية ويسعون إلى تصفيته، لكن عبدالناصر اطلع على الوثائق وتأكد من المؤامرة، وصدرت الأوامر بالقبض عليهم.
وبعدها وصلت رسالة من السفير المصرى فى بغداد لطفى متولى، تحمل استرحاماً رفعه أهالى الذين قاموا بالتخطيط لمؤامرة اغتيال عبدالناصر يستنكرون فيها ما فعله أبناؤهم ويلتمسون منه الصفح بالعفو عن أولادهم الذين غررت بهم السلطة البعثية فى بغداد».
■ ■
وهكذا مثّلت ظاهرة التنافس الثورى ملمحاً أساسياً فى عصر الثورات، وقد تراوحت مظاهرها من التنافس الخطابى وحتى الصدام العسكرى، على نحو ما ذهب النظامان الإيرانى والعراقى فى عهدى «الخمينى» وصدام حسين.
وعلى الرغم من ادعاءات النظامين بأن كليهما ضد النظم الملكية الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية فإنهما التقيا بالسلاح بمثل ما التقيا فى الأفكار.
إنها الصورة نفسها فى التنافس الثورى بين نظامى «عبدالناصر» و«بومدين»، وهى نفسها عند القرن الأفريقى؛ حيث اصطدمت الثورتان الإثيوبية والإريترية وخاضتا حرباً نحيلة أعياها الطريق.. وهى الصورة الكبرى بين بكين وموسكو.. حين التقتا فى الشيوعية واختلفتا فى كل شىء.
وهى على صعيد الإسلام السياسى، صراع وصدام الجماعات الثورية الإسلامية و«الإخوان المسلمين» إلى «الجماعة الإسلامية» وفصائل الجهاد إلى جماعات الفوضى الدينية.
■ ■
إن حالة التنافس الثورى هذه كان يمكن ضبطها لو أنها كانت مقصورة على التنافس بين الثورات، غير أنها تمتد -وهذه مشكلة أكبر- للتنافس الدموى داخل الثورات، وتمثلها تلك المزايدات التى لا تنتهى داخل أروقة الجماعات والهيئات الثورية، وتلك الانشقاقات الواسعة التى تعقبها انشقاقات أوسع.. وهى حالة فى مجملها أقرب إلى الاتهام الذى وصفت به الجماعةُ الإسلامية المصرية جماعةَ الإخوان المسلمين ذات يوم: «يكرهون أن تخرج كلمة الإسلام إلا من أفواههم».
ومن الطبيعى أن يجد المرء فرصة كبيرة لأن تلتقى فصائل المحافظين السياسيين واليمين الليبرالى، على الرغم مما يحكمها من مصالح وفلسفة عملية، أكثر مما يمكن أن تلتقى جماعة ثورية واحدة أو حزب يسارى واحد.
وربما يعود بعض السبب فى ذلك إلى تلك البلاغة العامة التى يتمتع بها الثوريون؛ فمثل ذلك الإحساس بالوعى الزائد يجعل من الانضواء تحت تنظيم واحد أو مشروع واحد أمراً مستحيلاً.
وربما يعود أيضاً للطبيعة النضالية لليسار، وهى الطبيعة التى تجعله حالة انفعالية إلى جوار كونه حالة معرفية وحركية، غير أن الناتج النهائى لظاهرة التنافس الثورى هو الجفاء حتى النهاية والصدام حتى الحرب.
الجزء السادس والأخير.. الأسبوع المقبل بمشيئة الله.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر.