هل تصدق أننى لا أتذكر كم عاماً مضت على وفاة أمى: ست أم سبع سنوات؟!. العقوق مستمر حتى بعد أن ذهبت وتأكد لى أنها ذهبت ولن تعود. نحن لا نستحق أمهاتنا ولا نعرف قيمتهن إلا ساعة الموت، وما دون ذلك: نحن أبناء الطبيعة. ولدنا وكبرنا ووصلنا إلى ما نحن فيه من دون أن يكون لـ«البطن» الذى أوانا تسعة أشهر.. أية قيمة. لكننى، ولإحساس الذنب هذا، أشعر أن أمى «بعد الله» فى الأرض، أعود إليها كلما ضاقت بى نفسى وأصبح ظهرى إلى الحائط.
أعود كما يعود الفرع إلى الجذر: أنا فى دار الباطل.. الحيرة والهوان والوحدة والألم الذى يتداعى ويركب بعضه بعضاً، وهى فى دار الحق.. تتفرج على فواجعى ومحنى وصغائرى من شرفة موشاة بكل ثمار الجنة: فاكر؟.
كنت تخاف من صعود السلم فى الظلام، فتنادى: «أماه»، وتطلب منى أن أتكلم، ولا أتوقف عن الكلام حتى ترانى، فتطمئن. كنت تريد منى أن أؤانسك، وأن أبدد خوفك من غائلة الظلام بصوتى، وكان صوتى أوهن وأحن عليك من صحبة العفاريت والأرواح الهائمة فى فضاء البيت.
كنت تنادينى: «أماه»، ولا تكتفى بـ«نعم» واحدة.. من يومك وأنت «طماع» لا تشبع من مشاعر الحب كأنك تدخرها لمن سترثك من بعدى. هل وجدتها يا ولد؟. ستجدها طبعاً.. لكنها لن تكون مثلى. سأغلبها بالتصاقك بى ما دمت حياً، وستغلبنى بـ«خيلة» الأنثى ومكرها، وستكون أنت وقلبك وعقلك ومالك وعملك فى الدنيا «ساحة حرب» بينى وبينها.. قلبى معك يا «محمود»، وآخر دعواى من موقعى فى الجنة: ربنا يحبب فيك الغريب والقريب والنصرانى أبوصليب.
كنت تنادينى: «أماه»، بفصحى جليلة، ومنذ تركت البيت والأرض وأصبحت قاهرياً، وتفرعت ورداً وشوكاً على أرصفة الحنين.. تنادينى باسمى: «زينب البكرى»، أنا لا أفهم «حداثتك» تلك!.. هذه «صياعة» لا تليق بعاداتنا وتقاليدنا. هل سبق لك أن سمعت أباك -رحمه الله- ينادينى باسمى؟. ألم تكن تسمعه ينادينى باسمك أنت: «ياد يا محمود»؟. لولا أنك القريب إلى برزخ مقدس بين صمامين فى قلبى.. لولا أنك مكبل بشرايينى.. لولا أن للجنة حرمتها.. لقلت لك: «تأدب يا ولد»!.
كنت أحارب الدنيا بك إذا قست أو راوغت أو اشتد كربها، وأعاير «سلفتى» -زوجة عمك- بك إذا عايرتنى بالمرض، وأغيظ الموت بك إذا خايلنى أو طرق باباً فى ملكوتى الصغير. كنت أحمل أخاك على كتف، وأحملك على الآخر، وأقطع المسافة بين النكد والبهجة فى غمضة عين. كيف تقول إن «خلفة الولد» أصبحت «موضة قديمة»؟. «الولد» خلود، حتى إذا كان «عظماً فى قفة»، و«البنت» قطيعة حتى لو حكمت الأرض ومَن عليها... سلو بلدنا كده!.
كنت ذاكرتك. أحكى وتسمعنى، فتعبرنى إلى ماضٍ لم تعشه.. لكنك لا تستطيع أن تعيش من دونه. أنت فى الحقيقة «تكتبنى» وتكتب بى، ولا فضل لعلمك فيما أنجزت، فماذا قدمت لى؟.. سأفاجئك: أنا مكتفية بك.
الجنة -فقط- إجابات، لكننى أتمنى لك دوام الصحة وطول العمر، عش فى أسئلتك ولا تتعجل صعودك إلى الله.. فهو باقٍ وأبدى، وينتظرك فى موعدك المدون فى اللوح. اسأل كثيراً لتصل إليه قبل أن يصل إليك. اتعب وابكِ -حزناً وفرحاً- ولا تسمح لشوائب القلب أن تعطل بحثك عنه... الله -يا ولدى- هو معناك، وهو أول الكلام وآخر الفعل.