أستأذن القارئ الكريم فى تأجيل سلسلة «حوار بين إبليس وشيطان» إلى الأسابيع المقبلة، حيث إنها تتعلق بأحداث مضت، بعضها كان ظاهراً ومعروفاً، وبعضها الآخر كان خفياً ويحتاج إلى إيضاح وتجلية، وأتكلم اليوم عما يجرى على الساحة خلال المرحلة الحالية لأهميته.
(١) لقد رحل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) عن دنيانا، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً.. أراد الرجل أن يكون للمملكة دورها المتميز على المستويين، الإقليمى والدولى، وأعتقد أنه نجح فى ذلك.. كان قومياً عروبياً بامتياز، قام بعمل تحديث للمجتمع السعودى، وقد حاول أن يسهم بحظ وافر فى إيجاد حل للقضية الفلسطينية.. كما وقف مع مصر عقب ثورة ٣٠ يونيو، والإطاحة بحكم الإخوان، موقفاً مقدراً ومحترماً، اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً.. أعتقد أن سياسة المملكة لن يطرأ عليها تغير دراماتيكى بمجىء خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وأنه سيحاول اقتفاء أثر سلفه.. فى تصورى سوف تستمر سياسة الاحتواء والتعايش مع التناقضات، إقليمياً ودولياً.. لن يكون هناك فوز بالضربة القاضية الفنية، ولا حتى بالنقط لأى طرف من الأطراف، ذلك لأن السياسة الآن أصبحت أكثر تشابكاً وتداخلاً وتعقيداً.
(٢) خذ مثلاً المشكلة السورية.. كانت المملكة تأمل -وما زالت- فى إسقاط نظام بشار الأسد، لذا كانت حريصة على دعم وتأييد ومساندة الثورة السورية، لكن فى إطار حل سياسى.. وأظن أن الإدارة الأمريكية، وتوابعها (الاتحاد الأوروبى، تركيا، وقطر) كانت هى الأخرى تريد ذلك، ليس تجنباً لسفك دماء السوريين، ولكن لصعوبة نتائجه -إقليمياً ودولياً- إلا أن نظام بشار أظهر صلابة واستعصاء، بل ازداد شراسة وضراوة فى مواجهة الثورة، وقد ساعده فى ذلك إيران وروسيا والصين.. فى عهد المجلس العسكرى وخلال الأشهر الأولى من حكم الإخوان، كانت مصر تدرك أن التدخل العسكرى يحمل مخاطر كثيرة، وأن الحل السياسى هو الطريق الأسلم والأكثر أمناً وأماناً للمحافظة على الدم السورى من ناحية، ووحدة سوريا من ناحية ثانية.. ومن هنا كانت اللجنة الرباعية التى اقترحها مرسى، والتى تضم ممثلين عن مصر والسعودية وإيران وتركيا.. إلا أن هذه اللجنة -للأسف- لم تباشر عملها، ربما لأن الإدارة الأمريكية ارتأت فى مرحلة أن الحل العسكرى هو الطريق الأفضل لها ولتوابعها (خاصة تركيا)، حيث ساعدت وأمدت المعارضة السورية بالسلاح.. ومنذ تلك اللحظة والأوضاع تزداد تعقيداً، وأعداد الضحايا والمصابين تتفاقم، وهجرة النازحين -بكل ما تمثله من مآسٍ- تصل إلى حد غير مسبوق.
(٣) إن قطر دويلة صغيرة، لكن لديها الثروة والطموح فى أن تلعب دوراً (إقليمياً ودولياً) غير محمود، للأسف لصالح المشروع الأمريكى/ الصهيونى.. ساعدها فى ذلك -بطبيعة الحال- الإدارة الأمريكية، والاتحاد الأوروبى، والكيان الصهيونى، وتركيا.. ولكى تستكمل هذا الدور، كانت تتمنى أن تكون علاقتها بمصر متميزة، وقد تيسر لها ذلك أيام حكم الإخوان، إلا أن هذه العلاقة لم تدم سوى عام واحد فقط، بعده ساد التوتر بسبب موقفها، أو بالأحرى موقف الإدارة الأمريكية من ثورة ٣٠ يونيو، والإطاحة بحكم الإخوان.. وقد سعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) إلى التقليل من حدة الزوابع التى تثيرها إدارة قطر تجاه مصر، وقد نجح -إلى حد ما- فى ذلك، على اعتبار أن ما تواجهه المنطقة من عنف وإرهاب يقتضى موقفاً موحداً.. غير أن وفاة الرجل جعلت قطر تنكص على أعقابها، وتعود إلى سيرتها الأولى (!)
(٤) إن تركيا دولة كبيرة، ولها طموحاتها على المستويين: الأوروبى من ناحية، والعربى - الإسلامى من ناحية أخرى.. وتمثل صلتها بـ«داعش» علامة استفهام كبرى، حيث تسعى لاستغلالها ضد النظامين السورى والإيرانى.. وكما فقدت قطر حلمها فى أن تجعل علاقتها مع مصر استراتيجية، كذلك تركيا.. إن أردوغان يريد أن تكون لتركيا زعامة (سنية) على المستوى العربى والإسلامى فى مواجهة التمدد الإيرانى الشيعى.. غير أن الوصول إلى تلك الزعامة لا يتحقق إلا إذا نالت رضا السعودية ومصر.. لذا، فهى تحاول الضغط على الأخيرة من نواحٍ عدة، أهمها الدعم السياسى والإعلامى والمادى للإخوان ومناصريهم.. ولعل ما تقدمه لإثيوبيا فى إقامة سد النهضة، وكذا الزيارة إلى الصومال التى كان يزعم أردوغان القيام بها، يمثلان أحد أوجه هذا الضغط أو الابتزاز.
(٥) المشروع الإيرانى الشيعى يريد أن يتمدد فى المنطقة العربية على حساب الضعف والعجز العربى من ناحية، ونتيجة تفاهمات وصفقات مع الإدارة الأمريكية من ناحية ثانية، وبسبب ظروف طارئة (ممثلة بالعنف والإرهاب الداعشى) على المنطقة من ناحية ثالثة.. فهناك محور استراتيجى مع سوريا، ووجود قوى فى لبنان والعراق، وحضور لا بأس به فى البحرين وشرق المملكة العربية السعودية، علاوة على الحوثيين الذين يسيطرون الآن على اليمن الشمالى.. بمعنى آخر، يريد المشروع الإيرانى بسط ردائه ونفوذه على المجارى المائية ذات الأهمية العالمية وهى: شرق البحر المتوسط، الخليج العربى، المحيط الهندى، خليج عدن، وجنوب البحر الأحمر.. وهذا كله يشكل جزءاً مهماً فى منظومة الأمن القومى المصرى.. ومن هنا يبرز الدور المصرى إلى جانب الدور السعودى.
(٦) وإذا كان معلوماً أن مصر تمثل العمود الفقرى للدول العربية، وأن قوتها تعتبر قوة للعرب، وأن نهضة العرب وتقدمهم مرهونان بنهضة مصر وتقدمها، فلنا أن نتخيل كيف أن المشروع الأمريكى/ الصهيونى حريص على إضعاف مصر وتخلفها، وتهميش دورها، فضلاً عن وضع العراقيل التى تحول دون تواصلها مع الدول العربية.. ولنا أن نعتبر كل من يخل بأمن مصر، أو يزعزع استقرارها، خائناً ليس لمصر فقط وإنما للعرب والمسلمين.. أعتقد أن التعاون المصرى/ السعودى يمكن أن يمثل محوراً استراتيجياً فى مواجهة المشروع الأمريكى/ الصهيونى من ناحية، والمشروع الإيرانى الشيعى من ناحية أخرى (بالرغم من الاختلاف الظاهر حالياً بين نتنياهو وأوباما بخصوص الشأن الإيرانى).. كما أن هذا المحور يمكنه أن يحد أو يقلل من التوترات المرتبطة بالنزاعات الحدودية أو العرقية أو الطائفية فى المنطقة، والتى تعتبر أحد أهم أسباب الضعف والعجز العربى.. وأرى من الضرورى أن يضع المحور الاستراتيجى المصرى/ السعودى فى خطته أن يتواصل مع المعسكر الشرقى (روسيا والصين)، بل أن يفتح طريقاً مع إيران، وتركيا.