إجابةُ السؤال يعرفها الجميع. نعم، نتحدث مع الله جهراً وسرّاً فى صلواتنا. ومفردة «صلاة» مشتقّة من الفعل «وَصَلَ». فالصلاة «صِلةٌ» بين الإنسان وخالقه، يقول فيها كلمات معلومات، من القرآن والتشهّد، أو كلمات جديدة من نجواه الخاصة حين يسجد فيناجى الله ويشكو إليه ويسأله الغفران أو يُفضى إليه بأحلامه. ونحن المصريين، أكثر شعوب الأرض استعمالاً للفظ الجلالة فى أحاديثنا اليومية: نقول: «الله» حين يروق لنا منظرٌ خلابٌ أو ثوب أنيق أو وجه صبيّة مليحة. ونقول «الله» مبتسرة حانقة حين نغضب، أو نستنكر. ونقول: «يا الله»، حين نهمُّ بالمُضى أو حثّ الآخر على العمل. ولا تخلو أحاديثنا من ذكر «الله»: إن شاء الله، ما شاء الله، حسبى الله، الله عليك، بالله عليك، اسم الله عليك.. وفى خلواتنا نكلم الله ونحاوره. فنشكره، ونسأله، ونسائله، ونعاتبه، ونرجوه، ونلحُّ فى رجائنا، لأننا نصدّق جدّاً قوله تعالى: «ونحنُ أقربُ إليه من حبلِ الوريد» (ق ١٦). ومن قبلنا فعلها أبو الأنبياء، سيدنا إبراهيم، عليه السلام، وحاور الله جهراً، وأجابه اللهُ دون أن يبطش به: «وإذْ قال إبراهيمُ رَبِّ أَرِنِى كيف تُحيِى الموْتى قال أوَلَمْ تُؤْمِن قال بَلَى ولكن ليطمئنَ قلبى قال فخُذْ أربعةً من الطير فَصُرهنَّ إليك ثم اجعلْ على كلِّ جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعُهنَّ يأتينك سَعياً واعلمْ أن اللهَ عزيزٌ حكيمٌ.» (البقرة ٢٦٠).
لكن سَدنة الفكر قاتلى الخيال، أعداءَ الحياة، وخصيمى العقل، المزايدين على تقوى الأتقياء، ومهووسى الشهرة، يستنكرون علينا ما نفعله، ويفعلونه، فى سرّائنا وضرّائنا، فى سِرِّنا وعلننا، ويحاكومننا إن أعلنّا أحاديثَنا مع الله؛ ثم يدبجون لنا قضايا الحِسبة ويقتاتون على خيالنا وإبداعنا وإيماننا بالله؛ فيما هم أبعدُ الناس عن نجوى الله، بأفعالهم!
بتاريخ ٩ يناير ٢٠١٥، كتب الأستاذ ثروت الخرباوى مقالاً تخيليّاً لطيفاً عنوانه: (حوار مع السيد المسيح). وأسأل أ. ثروت: هل بوسعه كتابة مقال لطيف مشابه عنوانه: (حوار مع سيدنا محمد)؟! فيحاوره كما حاور السيد المسيح، ويمازحه ويناقشه ويحاججه كما فعل مع السيد المسيح، عليهما الصلاة والسلام؟
أعرفُ الإجابة التى يعرفها الجميع. ليس بوسعه، للأسف، أن يفعل. فهو آمِنٌ حين تخيل أنه يخاطب مَن نراه نحن المسلمين رسولاً كريماً، ويراه المسيحيون إلهاً. هو يأمن جانب المسيحيين لأنهم لا يقاضون الناسَ ولا يفتشون فى ضمائر الخلق ولا يرمونهم فى السجون بتهمة ازدراء الأديان.
ورغم إيمانى المطلق بأن الرسول، عليه الصلاة والسلام، ذاته ما كان سيغضب إن حاورناه أو ناقشناه، ونحن نحاور الله تعالى ذاته، فى مقالاتنا وقصائدنا وخيالنا، فإننى على ثقة من أن الأستاذ ثروت سيخاف ألفَ خوف وخوف من أن يقترب خيالُه من رسول الله؛ لأن الخيال ممنوع لدينا بأمر سدنة الجمود، أعداء الخيال والإبداع. سيرتعب أن يكفّره المكفرون الذين أفسدوا علاقتنا الجميلة بمقدساتنا وملأوا قلوب البسطاء بالخوف والوجل بدلاً من السلام والحنو والمحبة.
أولئك الغلاظ الذين شيّدوا أسواراً عالية مفخخة بالشوك والأنصال وشظف الحصى بيننا وبين الله فملأ الرعبُ قلوبَ الناس بدلاً من الحب والثقة والإيمان، وحرّموا على أنفسهم الخيال والسؤال، وحرموا أنفسهم من صلاة حقيقية مع الله تعتمد الحب لا الخوف. نسوا أصول النصوص وقدّسوا التفاسير وإن كانت على خطأ؛ لأنهم محرومون من عقول تتأمل وتعقل فحاربوا من تأمل وعقل. شكلانيون قدّسوا الطقسَ ونسوا النص. وعبدوا البشر دون خالق البشر. جعلوا من أنفسهم آلهة بأنياب وأظافر، وتسيل الدماء من زوايا أفواههم من فرط ما أكلوا من لحوم الناس وشربوا من دمائهم ومضغوا أعراضهم. يعدّون علينا أنفاسنا ويحاسبوننا على خيالنا ويحاكمون ضمائرنا لضحالة خيالهم.
هيا، أيها المحتسبون المقتاتون من عرق الكادحين، المنبطحون على أرائك اللجان الإلكترونية تنتظرون منحة كل شهر لتسبوا الشرفاء وتعطلوا أعمالهم، هيا، أنتظرُ آخرَ يقاضينى. فلم أعد أعبأ بالضوارى الضالة، لأن سموم العضة الأولى تُكسبنا المناعة.