لماذا تحفظت بعض الدول العربية على التدخل العسكرى المصرى فى ليبيا؟.. ولماذا غضبت دول مجلس التعاون الخليجى من اتهام مندوب مصر فى جامعة الدول العربية لدولة قطر بأنها ترعى الإرهاب؟.. ولماذا اضطربت الصفوف فجأة فى المنطقة العربية بعد انعقاد جلسة مجلس الأمن لمناقشة الطلب المصرى برفع حظر التسليح عن الحكومة الليبية الشرعية والسماح لها بطلب التدخل العسكرى من حلفائها للمساعدة فى القضاء على الإرهاب؟ ولماذا ترك الأمين العام للأمم المتحدة كل قضايا الإرهاب التى تزلزل المنطقة العربية بكاملها واهتم فقط بأن يطلب من مصر إعادة فتح معبر رفح؟.. وكيف لنا أن نفهم إصرار مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا على أن الحل الوحيد الذى توصل إليه بعد لقاءات مكثفة هو أن يجلس كل الفرقاء فى ليبيا على طاولة التفاوض دون أن يشير بكلمة واحدة إلى أى إجراء يتعلق بالميليشيات المسلحة الجوالة المنتشرة فى كل ولايات ليبيا؟.. وأى قاموس سياسى نحتاج إلى الرجوع إليه لنفهم سر إصرار أمريكا على التدخل البرى ضد «داعش» فى الموصل بالعراق ورفضها الكامل لأى تدخل ضد «داعش» فى ليبيا؟
هذا الفيض من الأسئلة يحتاج إلى وقفة متأنية ليس لتحليله وفض ألغازه، فهو شديد الوضوح إذا وضعنا فى الحسبان أن أمريكا هى اللاعب الرئيسى فى هذه المنطقة الموبوءة بالتآمر والضعف والخيانة، وهى وحدها التى تملك خريطة طريق، كانت فى البدء سرية وملتبسة ومراوغة، لكنها باتت واضحة ومفهومة بشكل صارخ.. إنها خريطة الفوضى الشاملة فى الوطن العربى كله، وتقسيم كل دولة إلى دويلات إثنية وطائفية متحاربة.. وعلى ضوء هذا الفهم تصبح الأسئلة لازمة فقط لنا فى مصر.. وتصبح الإجابات عليها خريطة طريق مضادة تقاوم الخريطة الأمريكية.
إن مقاومة مصر لهذا المخطط لا يمكن أن تنجح -كما نريد لها- دون أن نحسب بدقة شديدة مَن معنا فى السر والعلن، ومن معنا فى السر وعلينا فى العلن، ومن معنا فى العلن وعلينا فى السر، ومن ضدنا سراً وعلانية، وفى هذا السياق لا بد أن ننتبه إلى أن أقل العرب خطراً على مصر فى هذه المرحلة ليسوا هم الذين يعادوننا بوضوح شديد مثل قطر والسودان، لكن الأكثر خطراً هم الذين قررنا أن نعتمد عليهم ظناً منا أنهم معنا، وإذ بنا نكتشف أن قرارهم ليس فى أيديهم، إنما فى أيدى الولايات المتحدة الأمريكية من الأساس.
لا أقول إن مصر ينبغى لها أن تقطع «شعرة معاوية» مع أى دولة عربية، ولا أدعو أحداً إلى بدء حفلات التجريس ضد هذه الدولة أو تلك، لكن صناعة القرار السياسى فى مصر ينبغى أن تحتاط تماماً، وأن تتحسب لهذه التقلبات المفاجئة، ولهذا الصمت المطبق الذى تحصنت خلفه دول أخرى فى المنطقة تجاه الضربة العسكرية المصرية لقواعد «داعش» فى ليبيا، فلم تؤيدها ولم ترفضها، لكنها سمحت لسياسيين كبار وخبراء استراتيجيين أن يتحدثوا عن هذه الضربة بوصفها «تصرفاً غريباً لا تقدم عليه إلا دولة عظمى.. وهذا ما نرفضه»، نعم، هذا هو سبب التحفظ الذى أبداه خبير سياسى كبير فى إحدى دول المغرب العربى ونشرته جريدة «الشرق الأوسط» على لسانه أمس.
نعم، ليس مقبولاً من مصر عند كثير من العرب ومن الأشقاء أن تتصرف بوصفها دولة عظمى، لا تستأذن أحداً عندما تقرر أن تثأر لدماء مواطنيها الذين ذبحهم تنظيم «داعش» وهم أحياء على مرأى من العالم كله.. وكان عليها أن تستأذن أمريكا وأذيال أمريكا فى المنطقة قبل أن تثأر لأبنائها المذبوحين.. والمؤلم أن هؤلاء الأذيال لم يطالبوا أمريكا أبداً بالاستئذان قبل أن تقتحم أى دولة عربية وتهدمها وتسرّح جيشها وتدمر كل مؤسساتها وتتركها نهباً لميليشيات كافرة مسلحة بأحدث العتاد العسكرى الأمريكى!
إن خبرة الأيام القليلة الماضية بما حملته من تقلبات فى المواقف تضعنا فى مصر أمام خيار وحيد للنجاة بأنفسنا قبل أن يكتمل الحصار علينا، هو أن نعتمد فقط على إمكاناتنا فى المواجهة، وأن نستثمر كل الأوراق الدولية والعالمية الممكنة والجاهزة فى هذه الحرب، وأن نفتح أبواب العلاقات المصرية أمام أى دولة لا تمتثل لما تريده أمريكا، ولم تضع كل مصائرها فى أيدى الأمريكان. فالسياسة قبل كل شىء وبعده لعبة مصالح، ومصالح فقط.. ولا ينبغى أبداً أن نثقل خطانا، على طريق موبوء بالتآمر، بمبادئ وأخلاقيات ومشاعر لن يلتزم بها أحد.