لو روى لى أحد هذه القصة لأخذت منها وتركت، لكنى صاحب الرواية، ومن شاء أن يصدق أن هناك فى البشر أناساً بهذه الطبائع وهذه السجايا وهذه الفطرة وهذه البساطة فليصدق، ومن شاء أن يتعجب أو لا يصدق فأنا ألتمس له العذر.
أكرمنى الله بالحج إلى بيته العتيق عدة مرات بعد الفريضة، وأنا أتخذ الحج فرصة للخلوة والخروج من هموم العمل والأسفار والانقطاع عدة أيام عن دنيا الناس بكل ما فيها، ورغم وجود ملايين الناس فى الحج فإن لى طريقتى التى أقضى بها هذه الأيام وكأنى وحدى لا أرى أحداً من الناس، مصداقاً لقول الشاعر: «إنى لأفتح عينى حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحداً» فعادة ما أفعل كل شىء دون أن أرتبط بأحد أو أمشى فى مجموعات، وعادة ما أجيد التخفى حتى لا يزعجنى الناس ممن يتعرفون علىّ من خلال عملى التليفزيونى، لكنى فى هذه المرة صحبت من دون الناس هذا الرجل الذى سأروى قصته، وما زال وجهه الوضىء الملىء بالسمرة يصاحبنى كلما تذكرت تلك الأيام الجميلة.
لاحظت أكثر من مرة حينما نزلت لتناول الطعام أنه يجلس وحده مثلى، وكان يبدو من ملامحه السمراء وبنية جسمه الممتلئة أنه أحد هؤلاء الذين يكدون فى الحياة، أخذت طعامى ذات مرة وجلست قبالته لا أتكلم وإنما أتأمل سمرة وجهه وبساطته فى تناول الطعام، رفع رأسه نحوى ببساطة شديدة وقرب من النفس وطيبة قلب، وقال: أنا اسمى الحاج شعبان وانت اسمك إيه يا حاج؟ قلت له: اسمى أحمد؟ قال: «تشرفنا يا حاج أحمد؟ حضرتك مصرى برضه زينا»، ابتسمت وقلت له: نعم أنا من مصر وأنت من أين يا حاج شعبان؟، قال: «أنا من قرية تابعة لمحافظة الشرقية فى مصر وأعمل فى مزرعة فى قطر، والكفيل الله يكرمه مطلعنى أحج على حسابه زى كل المصريين اللى أنا شفتهم هو مين يقدر على مصاريف الحج دى؟ دى الناس شقيانة وغلابة ويدوبك اللى جاى على أد اللى رايح».. صمت قليلاً وأنا أستمع وأبتسم دون أن أعلق ثم أكمل حديثه قائلاً: «شكلك على باب الله مثلى يا حاج أحمد»، قلت له: «كلنا على باب الله يا حاج شعبان»، قال لى: «الحمد لله... رضا على كل حال.. أنا عندى 3 ولاد ربنا أكرمنى ورزقنى برزقهم وعلمتهم الكبير تخرج السنة دى من الجامعة وعايز أشوف له شغلانة فى قطر، والبنت هتتخرج السنة الجاية من كلية الهندسة والواد الصغير فى الثانوية، والدروس الخصوصية هلكانا يا حاج أحمد، لكن بقول لو الواد الكبير يلاقى شغلانة فى قطر أهو يشيل عنى شوية برضه، العيشة بقت صعبة قوى يا حاج أحمد، لكن الحمد لله على كل حال، غيرنا مش لاقى يسد احتياجاته لكن ربنا كرمنا كرم كبير قوى»، وأخذ الحاج شعبان يحكى وأنا أستمع دون أن أقاطعه، يحكى قصة إنسان مصرى بسيط مكافح يريد أن يرى فى أولاده ما لم يستطع أن يحققه لنفسه فى الحياة، استطرد فى حديثه وقال: «أنا تربيت يتيماً يا حاج أحمد، أمى ما كانش عندها غيرى وكانت - الله يرحمها - مكافحة ومثابرة فى الحياة، لم أدخل المدرسة، كنا غلابة وكانت أمى بتجرى على لقمة العيش بعد ما مات أبويا علشان تربينى، ما كانش معاها علشان تعلمنى ولسه فاكرها وهى بتشقى وأنا طفل صغير أركض وراءها ممسكاً بجلبابها وهى تدور فى الأسواق تبيع بعض الحاجات البسيطة حتى نتقوت من عائدها الذى كان يكفينا بالكاد»، ترقرقت دمعة فى عيون الحاج شعبان وهو يتذكر أمه، مسح دموعه ودعا لها بالرحمة الواسعة فأمَّنت على دعوته، ثم قال لى: الحاجة والدتك عايشة يا حاج أحمد؟ «نكمل غداً».