اجتهدت خلال الأيام الماضية لتناول الأوجه المختلفة لأزمة وضع الدستور فى مصر، والشكوك القانونية والسياسية والآجال الزمنية الضاغطة التى باتت تحيط بعمل الجمعية التأسيسية، وكذلك لتحليل كيف تسبب نهج أحزاب وتيارات
الإسلام السياسى فى أزمة وضع الدستور (تشكيل التأسيسية ومسودة الدستور) وحدود المسئولية الملقاة على عاتق رئيس الجمهورية لتجاوزها.
واليوم، وقبل أن أعاود بالغد القراءة التفصيلية لمسودة الدستور التى توقفنا بها عند المادة 41 فى باب الحقوق والحريات، أوجه نداء لكافة الأحزاب والتيارات والشخصيات العامة الممثلة بالتأسيسية، وتلك التى تقاطعها وتدعو لإعادة تشكيلها وترفض مسودة الدستور، بأن تجلس معاً وتبحث عن مساحات التوافق بينها بشأن أربع قضايا رئيسية.
القضية الأولى هى ضمانات الوصول إلى نص دستورى يحمى الحقوق والحريات والمواطنة القائمة على المساواة الكاملة ويؤسس لنظام ديمقراطى ويحتفظ بمبادئ الشريعة كالمصدر الرئيسى للتشريع، ويلتزم بالمواثيق والعهود الدولية الناظمة لفعل وتفاعلات المجتمعات البشرية المعاصرة.
أعلم أن أعضاء التأسيسية يتفاوضون فيما بينهم وأن بعضهم يزعم أن الأمور الخلافية فى سبيلها إلى الحل، إلا أن الثابت وبالنظر إلى الإشكاليات الكثيرة بمسودة الدستور الحالية هو أن توسيع إطار التفاوض بات ضرورياً، وما زلت
أؤمل فى اقتناع السلفيين بأن دستوراً توافقياً لا يمكن أن يتضمن إلا النص على مبادئ الشريعة كالمصدر الرئيسى للتشريع، وفى اقتناع الإخوان بأن هندسة غير ديمقراطية للنظام السياسى جوهرها صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية وتغييب لآليات محاسبته مآلها الفشل، وفى تمسك الليبراليين غير الممثلين بالجمعية بالدفاع عن الحقوق والحريات دون تنازل وقبول التفاوض مع الأحزاب والتيارات الأخرى.
القضية الثانية هى تعديل قواعد التصويت على مواد الدستور داخل الجمعية التأسيسية وقواعد الاستفتاء الشعبى على الدستور؛ فالتأسيسية الراهنة وفى ظل الشكوك الكثيرة المحيطة بها، وبافتراض نجاحها فى الانتهاء من النص الدستورى قبل 12 ديسمبر القادم، ستضع مصر فى أزمة أخطر إن اعتمدت مواد الدستور إما بالتوافق أو بأغلبية 67 بالمائة أو بأغلبية 57 بالمائة.
فالنسبة الأخيرة عنوان صريح لشقاق سياسى ومجتمعى، ويتعين من ثم استبعادها والاكتفاء بالتوافق وأغلبية الثلثين كقاعدتين للتصويت على مواد الدستور وتستطيع الأحزاب والتيارات والشخصيات الممثلة بالتأسيسية الالتزام بهذا (كقاعدة عرفية) دون الحاجة لتعديل قانون التأسيسية (القانون 76 لسنة 2012 والمطعون فى دستوريته). كذلك أخشى على مصر من استفتاء شعبى على الدستور تحسم نتيجته بالأغلبية المطلقة (50 بالمائة بالإضافة إلى واحد) ولا ينص على حد أدنى للمشاركة الشعبية به لاعتباره شرعياً. وأحسب أن الأفضل لنا ولدستور يكون عنواناً لتوافق مجتمعى هو أن نعتمد على أغلبية الثلثين لتمرير الدستور فى الاستفتاء الشعبى وعلى حد أدنى 50 بالمائة نسبة مشاركة شعبية لاعتبار الاستفتاء شرعياً، ويستطيع رئيس الجمهورية باختصاصه التشريعى أن يصدر مرسوماً بقانون ينص على الأمرين.
القضية الثالثة هى دراسة مقترح الدستور المؤقت بجدية. على أن يكون واضحاً لجميع الأحزاب والتيارات أن الدستور المؤقت لا بد أن يناقش فى إطار حوار وطنى موسع يتجاوز حدود التأسيسية الحالية، وأن نصوصه لا بد أن تضمن الحقوق والحريات والديمقراطية، وأن عمره لا ينبغى أن يتجاوز عامين إلى ثلاثة أعوام، وأن الموافقة عليه فى الاستفتاء الشعبى يتعين أن تكون بأغلبية الثلثين.
القضية الرابعة هى التوافق على معايير وضوابط تشكيل جمعية تأسيسية جديدة إن سقطت الحالية (قانونياً أو سياسياً) أو لم تتمكن من إنهاء الدستور فى 12 ديسمبر القادم. الرئيس هو صاحب الاختصاص هنا، إلا أن تجاوز أزمة وضع الدستور يقتضى توافقاً وطنياً على المعايير والضوابط إن ذهبنا باتجاه جمعية تأسيسية جديدة.