لم يحدث فى أى مكان فى العالم أن اندلعت حرب إلا واستغلها أشخاص لتحقيق ثراء فاحش، حدث هذا فى الحرب العالمية الأولى والثانية، وحدث أثناء حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، ويحدث هذا الآن فى مصر وفى كل الدول العربية التى زارها الربيع العربى فى نهاية عام 2010 وأوائل عام 2011، ثم غادرها بعد أن دفن فى تربتها بذور الفوضى والخراب والإرهاب والانقسام الحاد، فأثمرت حروباً طاحنة فى كل مكان، وجثثاً مذبوحة ومحروقة ومصلوبة على الأشجار، وأطفالاً ونساءً وشيوخاً مشردين فى العراء.
ورغم كل هذه الفواجع، وربما تحت ستار كثيف من انشغال البلاد والعباد بهذه الفواجع، تكاثر بيننا المغامرون الذين يعرفون أنهم محصّنون ضد الرقابة والمتابعة، وعاثوا فى الأسواق فساداً وغشاً، وحققوا أرباحاً خرافية تُقدر بعشرات المليارات، نهبوها من جيوب المواطنين، كرهاً واقتداراً، وقد وقفت كل أجهزة الدولة حتى الآن عاجزة عن محاصرة ظاهرة الغلاء الفاحش، وظاهرة بيع سلع مغشوشة ومدمرة لصحة المواطنين، ولم يتمكن جهاز رقابى واحد من تقديم تفسير مقنع عن سر هذا العجز الرهيب فى التصدى لظاهرتَى انتشار السجائر الأجنبية والمحلية المغشوشة فى الأسواق وبيعها بأسعار فلكية، وتعرض المواطنين من أصحاب السيارات لعملية قرصنة منظمة فى كل مراكز صيانة السيارات التابعة للتوكيلات الكبيرة، أو التى تعمل مع هذه التوكيلات بنظام التعاقد.
نعم، السجائر وصيانة السيارات هما المجالان الأكثر تحقيقاً للأرباح الحرام الناتجة عن الغش والمغالاة الرهيبة فى أسعار الصيانة وبيع قطع الغيار، ولم يعد هناك مواطن واحد فى هذا البلد إلا ويتعرض يومياً للغش والتدليس إذا كان مدخناً، ويتعرض للغش والتدليس إذا حل موعد الصيانة الدورية لسيارته أو أجبرته الظروف على تغيير بطارية أو تغيير فلتر أو أى قطعة أخرى فى سيارته، فالأسعار تتحرك فى الحالة الثانية كل أسبوع تقريباً دون أدنى مبرر، ولا يملك أى مواطن أن يعترض أو يرفض شراء قطعة غيار جديدة لسيارته، كما أنه لا يعرف جهة محددة يلجأ إليها للشكوى، فقد تضخمت الشكاوى أمام جهاز حماية المستهلك، وجهاز دعم المنافسة ومنع الاحتكار، ولم يحدث ولو لمرة واحدة أن حصل مواطن على الإنصاف.
وفى سوق «السجائر» أصبح الأصل فى أى كشك أو محل هو توافر السجائر المغشوشة شديدة الخطورة على صحة المواطنين، وقد اهتممت خلال الأسابيع الماضية بالتحقق من مصادر جلب هذه السجائر، فاكتشفت شيئاً مذهلاً، هو أن جانباً ضخماً من هذه السجائر تقوم بتوزيعه السيارات ذاتها التى توزع السجائر الأصلية، وأن هذا العمل الإجرامى يتم بوسائل شديدة الالتواء والاحتراس، فالسيارة تخرج محملة بالسجائر المصنوعة محلياً، وفى مكان ما تتوقف لتحميل أضعاف الحمولة المحلية من كراتين السجائر المهربة والمضروبة فى مصانع بئر السلم، ثم تتركها لكبار الموزعين الذين يتكفلون بتوزيعها على كل كشك ودكان ومحل فى أنحاء الجمهورية.. وإمعاناً فى تضليل الرأى العام وتضليل كل أجهزة الرقابة، نشط تجار السجائر الكبار فى الصراخ من الخسائر التى يتعرضون لها بسبب انتشار السجائر المضروبة!
هل تعرفون حجم الأرباح التى تحققها السجائر المغشوشة لهؤلاء المجرمين؟ كل الدلائل تشير إلى أن 75٪ مما يشتريه المواطنون حالياً فى مجال السجائر هو من النوع المغشوش، فإذا علمنا أن المصريين يدخنون فى اليوم الواحد حوالى 25 مليون علبة، منها حوالى 18 مليون علبة مغشوشة، متوسط أرباح العلبة الواحدة 10 جنيهات على الأقل، نصبح أمام 180 مليون جنيه يومياً تدخل جيوب أفراد هذه المافيا!
هذه الأرباح الطائلة من الغش فى مجال السجائر تتحقق أيضاً فى مجال صيانة وبيع قطع غيار السيارات إذا كانت أصلية، فما بالنا بحجم الأرباح الحرام إذا كان نصف قطع غيار السيارات المطروحة فى الأسواق من الصنف المغشوش، وإذا كان هذا المغشوش يباع بأسعار القطع الأصلية؟
إن حجم النهب الذى نتعرض له فى هذين المجالين وصل إلى مستويات كارثية أثقلت كاهل المواطنين وحطمت إحساسهم بأنهم يعيشون فى «دولة» لها نظم وقوانين وبها أجهزة تراقب وتحاسب.. ورغم ذلك كله ما زال لدينا أمل كبير فى أن تصحو الدولة وأن تنتبه إلى أن هذه الأموال المنهوبة خلال أكثر من 4 سنوات تصل إلى أرقام فلكية، وأن مصادرة هذه الأموال من أثرياء الحرب هؤلاء توفر للموازنة العامة للدولة إيراداً محترماً يكفى لبناء مئات المدارس والمستشفيات والمصانع ورصف آلاف الكيلومترات من الطرق فى ضربة واحدة، والمحصلة: أليس هذا مشروعاً قومياً يستحق أن نبدأ فيه فوراً.. قبل أن يتمكن هؤلاء القراصنة من تهريب هذه الأموال؟!