كان صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألونه عن أشياء كثيرة. كان لديهم نهم للعلم والمعرفة، يريدون أن يتعلموا وأن يعرفوا، فإنما «شفاء العى السؤال» كما جاء فى الحديث.. يريدون أن تتسع مداركهم وتتفتح عقولهم، فقد جاء الإسلام ليفتح لهم آفاق الكون والحياة والوجود، فبناء الأمم لا يكون على جهل أو وهم أو ضيق أفق، كما أن الحضارات لا تنشأ إلا فى جو من الحرية تتيح للعقل القدرة على الابتكار والإبداع، واقتحام المجهول.. وقد شجعهم القرآن وحثهم على التفكر والتأمل والتدبر، واستخلاص دروس التاريخ للعظة والعبرة.. انظر إلى قوله تعالى: «أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير» (يوسف: ١٠٩)، وقوله تعالى: «أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها» (الحج: ٤٦)، وقوله سبحانه: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين» (آل عمران: ١٣٧)، وغير ذلك كثير.. وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) -أرجح الناس عقلاً وأكثرهم ذكاءً- يتحسس من صحابته الأوفر عقلاً وذكاءً ووعياً، فيختار من بينهم من يقوم بالمهام الصعبة التى لا يستطيع غيره القيام بها.. فهذا حذيفة بن اليمان، يقول: «كان الناس على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسألون عن الخير، وكنت أسال عن الشر مخافة أن يدركنى».. وقد استودعه الحبيب كثيراً من الأسرار التى تتعلق بالفتن وعلاماتها والمنافقين وملامحهم.. وهو الوحيد من بين الصحابة الذى اختاره النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم الأحزاب ليقوم بمهمة شاقة وعسيرة، وهى أن يأتى بخبر القوم، وقد كان.
ومما استقر عليه الأمر عند عامة علماء الشريعة، كون أحكامها وتكاليفها دائرة حول حفظ الضروريات الخمس، وهى: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. هذه الضروريات هى من كليات الشريعة، وهى ثابتة محفوظة فى جميع الملل.. ولأهميته الكبرى، جعل الإسلام العقل مناط التكليف، فقد «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» كما جاء فى الحديث.. بل إن الإسلام اهتم بالعقل وجعله طريقاً وسبيلاً للوصول إلى الإيمان.. وقد احتوى القرآن الكريم على ٤٩ آية متضمنة للعقل، منها ٢٠ آية فى ٩ سور مدنية، و٢٩ آية فى سور مكية.. والغالبية هنا، مرجعها فى الأساس أن القرآن المكى يركز على أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، كما جاء فى الحديث المشهور عندما جاء جبريل (عليه السلام) يسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الإسلام والإيمان والإحسان.. ويأتى ذكر العقل فى الغالب الأعم فى ذيل الآيات، كقوله تعالى: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» (البقرة: ٤٤)، وقوله: «كذلك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون» (البقرة: ٧٣)، وهكذا...
لكن، كيف يميز الإنسان بين الخير والشر، بين الحسن والقبيح، بين الصواب والخطأ، بين ما ينفع وما يضر؟
إنه العقل.. وفى تصورى أنه أساس النقل، بمعنى أن العقل هو الأداة التى بها يمكنك أن تفهم وتعى وتدرك مضمون هذا النص، وما هو مغزاه ودلالته.. إلا أن هناك مساحات يقف العقل إزاءها عاجزاً، ولأن الله تعالى أعلم بالإنسان من نفسه، فلم يكلفه عنتاً.. خذ مثلاً: لماذا صلاة الصبح ركعتان، والظهر والعصر والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟ ولماذا الصيام من الفجر إلى غروب الشمس؟ لقد أثر عن عمر (رضى الله عنه) وهو يهم بتقبيل الحجر الأسود، قوله: «والله إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك، ما قبلتك».. وأغلب هذه المساحات مرتبطة بالأمور الغيبية التى لا يستطيع العقل أن يدرك كنهها مصداقاً لقوله تعالى: «الذين يؤمنون بالغيب» (البقرة: ٣).. ومن هذا الغيب ما ذكره القرآن، مثل: الله تعالى، والملائكة، والجنة، والنار، والحساب.. إلخ.. لذا، كان مطلوباً أن تتعرف على الله تعالى من خلال بديع صنعه وجلال نعمه.. كقوله سبحانه: «سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» (فصلت: ٥٣)، وقوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت» (الغاشية: ١٧-٢٠).
وقد ذكر القرآن العظيم حوارات بين الله سبحانه وبين بعض أنبيائه، وبين أنبيائه وأقوامهم، وما ذاك إلا لأن القرآن يضع العقل البشرى فى مكانة ومنزلة كبيرة.. تأمل حواره تعالى مع الخليل إبراهيم (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام) حينما طلب منه أن يريه كيف يحيى الموتى.. إن الخليل يؤمن بقدرته سبحانه على ذلك، فكل الشواهد تدل عليه عقلاً وفكراً وتأملاً، لكنه يريد أن يرى بعينيه حتى يطمئن قلبه ويتثبت فؤاده.. وكان الله به رحيماً وعطوفاً وكريماً، فأراه ما طلبه.. نفس الأمر حدث مع «العزير» حينما مر على قرية وهو راكب حماره فرآها خاوية على عروشها.. تساءل: أنى يحيى هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله مائة عام، ثم أعاده للحياة من جديد، وأراه عياناً بياناً قدرته على الخلق، والبعث.. تأمل أيضاً حواره سبحانه مع موسى (عليه السلام): «ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك، قال لن ترانى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين» (الأعراف: ١٤٣).. من الذى لا يحب أن يرى الله وهو خالق الكون وواهب الحياة؟ لكن هل يطيق الإنسان ذلك؟
إن من أهم وأخطر الوسائل التى يعتمد عليها الإرهابيون فى تجنيدهم للشباب، مسألة تغييب العقل واستلابه، وبالتالى تحويل صاحبه إلى أداة طيعة هينة لينة يشكلونها ويصوغونها على النحو الذى يريدون.. هم يستخدمون من النصوص والآثار ما يخدم هدفهم ويحقق غرضهم وهو عدم إعمال العقل أو تعطيله، وأن العقل تابع للنص.. وقد تأملت كثيراً طبيعة وعقلية بعض الشخصيات التى يقع عليها الاختيار، فوجدت قواسم مشتركة بينها، مثل السذاجة، السطحية، قلة العلم، ضعف الثقافة، العاطفة المشبوبة، سهولة الانقياد، عدم القدرة على الحوار أو النقاش، وهكذا..
من هنا، نقول إنه لا بد من فتح النوافذ أمام العقل، كى يفكر ويتأمل ويتدبر.. كى يناقش ويحاور وينقد.. كى يتعلم كيف يختار.. هذا دور وزارات التعليم، والإعلام، والثقافة.. لكن، للأسف لا نجد لديها الهمة أو العزم ولا الرؤى أو الأفكار أو البرامج المطلوبة التى يمكن أن تخرج العقل المصرى من سباته وغفلته وغيبوبته وسطحيته.