فى سياق الصراعات العربية المحتدمة، وبالذات فى اليمن، وبصفة أخص بعد «عاصفة الحزم»، يدور جدل واسع بين مؤيدين للتصعيد العسكرى فى اليمن بعد أن جاوز الظالمون المدى، بل ومطالبين بامتداده إلى جبهات الصراع الأخرى فى ليبيا وسوريا وغيرهما وبين من يرون أن حديث التسوية هو الذى يجب أن يسود لأن الصراعات السياسية لا تُحل عسكرياً ناهيك عن أن تكون معقدة كما هو الحال فى اليمن فضلاً عما يحدثه توظيف الأداة العسكرية من دمار للدولة التى تجرى العمليات على أرضها مهما كانت دقتها بدليل الوضع الإنسانى الآن فى اليمن ومن استنزاف للقائمين بهذه العمليات خاصة إذا طال أمد القتال. وحديث التسوية هذا، وإن كان يركز حالياً على اليمن، يمتد لكل جبهات الصراع الأخرى داخل الدول وبينها، فمطلوب أن تكون هناك مصالحة بين الإخوان المسلمين والنظام فى مصر وكذلك بين الفرقاء فى ليبيا وسوريا وغيرهما وبين مصر وتركيا وهكذا.
صحيح أن الصلح خير، غير أن له شروطاً، وأول شروطه أن تكون مواقف الأطراف فى صراع ما متسقة مع منطق التسوية. وعلى سبيل المثال كيف تكون التسوية ممكنة بين الإخوان المسلمين والنظام وهم ما زالوا يعتبرون ما حدث فى ٣٠ يونيو انقلاباً ويطالبون بعودة مرسى ويُعملون العنف فى الناس والمنشآت دون أن يظهر من بينهم أى تيار له وزنه يمارس النقد الذاتى ويعرض مخارج معقولة من الأزمة، فكيف يتصالح النظام معهم، بل كيف يتصالح الشعب؟ وما زالت تركيا تدعم الإخوان المسلمين فى مصر وتتبنى مقولاتهم وتتدخل فى كافة الشئون الداخلية المصرية ويدلى رئيسها ورئيس وزرائه بتصريحات بالغة الصفاقة عما يجرى فى مصر وعن قيادتها، فكيف تجىء المصالحة مع مصر؟ وفى ليبيا ما العمل إزاء تجاهل طرف رئيسى فى الصراع نتائج الانتخابات التشريعية لمجرد أنها أتت ببرلمان لا يسيطر عليه الإخوان المسلمون؟ الأمر الذى يعطى دلالات مظلمة بخصوص حدود قدرة الديمقراطية وآلياتها الانتخابية على تقديم الحلول، أما سوريا والعراق فحدّث عنهما ولا حرج، ورغم كل الممارسات السلبية التى تدين نظاميهما لما ارتكباه من جرائم خطيرة فما المطلوب من أجل التسوية؟ أن يتم الاتفاق مع داعش وغيره من الفصائل الإرهابية وإسباغ الشرعية على السلطة التى يمارسها على أجزاء من إقليمى الدولتين؟
أما الحوثيون فلم يدعوا منذ بداية صعودهم، اعتباراً من ٢١ سبتمبر ٢٠١٤ يوم سقوط صنعاء فى أيديهم، أى مجال للحديث عن تسوية، وإنما كان سلوكهم لا يعنى سوى ضرب عرض الحائط بكل مقومات الشرعية من أجل فرض سيطرتهم المطلقة على السياسة والحكم فى اليمن. كان عملهم فى حد ذاته إسقاطاً للمبادرة الخليجية التى كانت تمثل فى ذلك الوقت مناط الشرعية بغضّ النظر عن الملاحظات عليها والانتقادات الموجهة لها، وبعد الاستيلاء على العاصمة تم توقيع اتفاق السلم والشراكة الوطنية برعاية المبعوث الأممى جمال بن عمر الذى استقال مؤخراً والذى أحاطت بمواقفه دوماً علامات استفهام، ورغم هذا كله لم يحترم الحوثيون هذا الاتفاق الذى وقعوا عليه وبلغت رغبتهم العارمة فى السيطرة على اليمن أوجها بالإعلان الدستورى الشهير الذى جمع كل مفاتيح السلطة فى أيديهم، فأين كان حديث التسوية فى كل هذه التصرفات؟ ثم طاش صوابهم عندما وجّه الرئيس السيسى الدعوة إلى الرئيس عبدربه منصور هادى لحضور قمة شرم الشيخ، إذ كان من شأن هذا أن يعنى ألا شرعية يستندون إليها على الإطلاق، ومن هنا كانت اندفاعتهم الحمقاء لاقتحام عدن والسيطرة على الجنوب وهو عمل يتجاوز قدراتهم بكثير فى الواقع اليمنى المعقد، ويبدو أن التحالف الانتهازى معهم من قبَل على عبدالله صالح وجيشه وثقتهم فى دعم إيرانى غير محدود قد أعميا عيونهم عن حقائق الصراع، لكن مسارعة الرئيس اليمنى إلى طلب التدخل العسكرى الخليجى والقرار الحاسم ببدء عملية عسكرية لحماية الشرعية فى اليمن واستناد هذا القرار إلى مشاركة من قبَل نصف الدول العربية تقريباً، وبالذات من مصر، فضلاً عن غطاء عربى عام لم تشذ عنه سوى دولة أو دولتين، وكذلك غطاء دولى تأكد مؤخراً فى قرار مجلس الأمن الأخير، كل هذا أدى إلى التصدى للاندفاعة الحوثية الحمقاء.
يقولون الآن إن الحوثيين قد أخذوا ينظرون بجدية إلى إمكانية التسوية وكانت مواقفهم قبل ذلك وحتى أوائل الشهر الحالى تعكس إحساساً بغرور قاتل ومن ثم استخفافاً بالتسوية، وهذا منطقى، فالعمل العسكرى الذى أدانه البعض منذ البداية كان ضرورياً من أجل إجبارهم على إدراك أنهم ليسوا بالضرورة أقوى الوحوش فى الغابة، ومن ثم من الضرورى إعمال العقل، ولو صح أنهم جادون الآن فى ولوج مسار التسوية فإن هذا يلقى مسئولية على الإدارة السياسية لعاصفة الحزم، ففى هذه الحالة لا يجب أن يبقى هدفها هو القضاء على الحوثيين قضاءً مبرماً لأن ذلك مستحيل، وقد فشل حليفهم الحالى صالح فى القضاء عليهم وهو فى ذروة قوته طيلة سبعة أعوام، وإنما ينبغى أن يتحول الهدف إلى إعطائهم مخرجاً للقبول بتسوية يكون نصيبهم منها هو وزنهم الحقيقى كما تظهره انتخابات نزيهة تجرى تحت إشراف أممى، وعندما يلفظون جنونهم وحماقتهم ويقبلون هذا من حيث المبدأ سوف يكون الجميع فى انتظارهم على طاولة المفاوضات فى مكان محايد لن يكون أفضل من مقرٍ للأمم المتحدة.