فعلاً تقليب بطن.. فنفس الأسئلة التى طرحناها منذ أواخر القرن التاسع عشر ما زالت تثار حتى الآن، مثل: عروبة أم إسلام؟ ديمقراطية أم شورى؟ دولة دينية قائمة على الخلافة أم دولة مدنية حداثية؟ شرق أم غرب؟ حجاب أم سفور؟ لم يعد أحد يمل من طرح نفس الأسئلة التى لا تحتمل سوى إجابة واحدة من بين إجابتين، أو بعبارة أخرى لا تحتمل سوى إجابة واحدة حدية (يا أبيض يا أسود)، لنصبّ المزيد من الزيت على نار الاستقطاب، وليت طرفاً يقدر أو يستطيع أن يفرض إجابته على المجتمع، فالقدرة على الفرض أحياناً ما تكون مقدمة للاستقرار، لكن الأمر لا يتخذ فى الأغلب هذا المسار، بل يتربع على أرجوحة تتراوح ما بين إجابتين.
من يقرأ فى التاريخ يعرف أن ما يردده الأستاذ «شريف الشوباشى»، صاحب الدعوة لمظاهرة خلع الحجاب، لا يختلف عما ثرثر به كثيرون منذ عقود بعيدة، وكل الردود والانفعالات التى تجيش بها أقوال وكتابات من أزعجتهم دعوته سبق وقرأنا مثلها فى كتب التاريخ التى تعرضت للمظاهرة التى دعت إليها «هدى شعراوى» للمناداة بكشف وجه المرأة. والموقف برمته لا يقول سوى شىء واحد: نحن نسير داخل الحذاء، ونشاط عقلنا فى التفكير يتشابه إلى حد كبير مع حركة الأمعاء فى البطن عندما تتقلب ذات اليمين وذات الشمال فى حركة قسرية تعيد إنتاج نفسها بلا نهاية! ولا أريد أن أبالغ وأقول إن حالة الارتداد التى نعيشها فى جوانب عدة من حياتنا يصح أن نصفها بـ«الحالة المرضية»، لكن علينا أن نعترف -فى أقل تقدير- بأنها حالة تستحق المراجعة. فنحن لا نجيد إنتاج إجابات حاسمة أو قاطعة على الأسئلة التى تحيرنا منذ قرون وحتى الآن، لذلك تجد أننا عباقرة فى إعادة إنتاج مشاكلنا وأزماتنا دون كلل أو ملل.
أسئلة الصباح والمساء، والأمس واليوم، والماضى والحاضر أهلكت العقل واستنزفت النفس المصرية، ولو أنك تأملت فيها بعض الشىء فستجد أنها فارغة المضمون، مجرد أسئلة فخمة ضخمة، لكنها لا تحمل معنى محدداً أو متماسكاً، فلا اتفاق على معنى واضح لأى من ثنائيات الإجابات عليها. تعال على سبيل المثال لسؤال: الخلافة أم الدولة المدنية الحديثة؟ أى خلافة تقصد: هناك معنى تدل عليه الخلافة الراشدة، يختلف عن المعنى الذى كرسته الخلافة الأموية، والاثنان يختلفان عن المدلولات السياسية للخلافة العباسية والخلافة العثمانية، وهكذا، ثم عن أى دولة مدنية نتحدث، وتجاربنا العربية تشهد أن الحكم المدنى أحياناً ما يغرق فى توظيف الدين لخدمة أهداف سياسية، وأن «الدولة المدنية» التى نعرفها عادة ما تتحلق حول مؤسسة معينة. انتقل بعد ذلك إلى معنى «السفور»، وسوف تجد أن البعض يفهمه على أنه خلع للحجاب، فى حين أن دعاته أواخر القرن الماضى حددوه فى رفع «البرقع» وكشف الوجه، مع الاحتفاظ بـ«الطرحة»، والدليل على ذلك أن أغلب صور هدى شعراوى تظهر فيها وهى مرتدية «طرحة» على شعرها. التركيز على هذه النوعية المتميعة من الأسئلة ذات الإجابات الحدية مأزق وضعنا أنفسنا فيه، عندما عزفنا عن طرح الأسئلة الأجدى التى تتعلق بحياتنا ومعايشنا والكيفية التى يمكن أن نندفع بها نحو نهضة حقيقية، لأنها أسئلة تقلّب المواجع، ونحن أميل إلى «تقليب البطن»!