وأصابت العدوى القرية بأكملها، فقد نقلت لهم الهندية «فيزيتاثيون» وأخوها مرض «الأرق» الذى دفعهما للرحيل عن مملكة شاسعة كانا فيها أميرين، ونال المرض من الجميع فأصبحت «ماكوندو» بأكملها لا تنام وتراجعت قدرة السكان على تذكر الماضى، فلجأ «بوين ديا» وأسرته إلى كتابة كل شىء على أوراق، بما فيها اللحظات الخاصة، وهنا استغل آخرون الأمر، ومنهم «بيلار» المنفلتة، فذهبت بهم جميعاً إلى قراءة أوراق اللعب ليس لقراءة المستقبل بل لقراءة الماضى، وهنا خلق الجميع عالمهم الجديد الذى كساه طابع الموت وليس الحياة كما وصفه «ماركيز»، لا يختلف عالمنا عن عالم «ماكوندو» فقد غرقنا فى عالم آخر صنعته موجة هادرة من المبالغات غلبت الجميع بداء من رأس السلطة حتى المواطن، فالكلمات التى تتطاير فى سماوات التعجل والزهو شكلت سوقاً حرة مثل «عكاظ» يتبارى فيها المبالغون الذين لا يخجلون من إطلاق الشعارات الرنانة والوعود الهائلة للتعبير عن القدرات الفذة والمستقبل الزاهر والنجاح الباهر دون أن يتوقف أحدهم ليشرح لنا أين نحن من العالم؟ وما هى قدراتنا؟ وكيف لنا أن نمر من هذه الضائقة التاريخية؟ وما هى خطتنا؟ ولماذا لم نتعلم من ماضينا؟ وكيف نتخلص من إرث التراجع؟ أى بوضوح «إحنا فين وهنعمل إيه ورايحين فين؟»..!!
الواقعية لم ينشغل بها أحد فقد طويت صفحتها لأن الهدف فيما يبدو هو «تمرير الأيام» دون محاسبة اعتماداً على مواقف سابقة استحسنها الجميع بل دافعوا باستماتة عنها لكنها فى دفاتر الأوطان تمثل سطوراً ينبغى أن تتبعها صفحات عن تطور الحياة وتحسين المعيشة وتذليل العقاب ومحاربة الفساد وتطهير البلاد، فالمبالغات حتى وإن بدت فى بعض الأحيان تحفيزاً على الجد والعمل والإنجاز تسجل فى إطار الالتزام، فما يقوله المسئول أو السياسى هو صك فى عنقه تجاه الجماهير، وهو ليس كلاماً، بل وثيقة تنبئ عن نوايا وتعكس أداء فيما بعد وفق حسابات التقييم.
من الاقتصاد إلى الأمن وصولاً إلى السياسة.. ملفات طالتها المبالغات أكثر مما ينبغى، والفضائحيون على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعى يوثقون أى شىء وكل شىء، فلا تستطيع أن تكذب أو تناور أو تداور، المبالغات هذه الأيام مثل البنادق متعددة الطلقات، يفسرها الجمهور بعاميته الرائعة بـ«البوق» أو «البؤ» فعند انقضاء التواريخ يقف ليحاسب ويقيم ويدقق، وعندما يمر الموعد تتراجع الثقة وتفقد الكلمات معناها ويصبح الإنصات مرة أخرى ضرباً من الخيال..!!
تستخدم المبالغات دائماً فى دنيا لا تعرف الشفافية حتى وإن خرجت معها إشارات عن طلب الدعم والتكاتف والمصير الواحد، تتكسر على أرض الواقع، خاصة مشاهدها التليفزيونية الشهيرة، فالقصة وما فيها أننا نحتاج إلى واقعية، بل إغراق فى الواقعية التى لا تعنى تغييب الخيال أو الخلق، فالأمم تتقدم بالأفكار ومعها الواقعية، فالعملاق يستطيع أن يرفع أثقالاً لكنه لا يستطيع أن يضع نفسه فى علبة كبريت، المسئولية حكمة قبل أى شىء، والحكمة تقتضى أن نتريث ولا نسرف فى تحديد تواريخ الإنجاز ولا ننشغل بالكاميرات فنظن أنها تصنع المعجزات وتخدر الشعوب وتسير الأمور وتخلق الأوهام، فالأوهام هى أن تبالغ دون أن تنظر فى المرآة لترى وزنك الحقيقى الذى هو نقطة البداية للانطلاق إذا قدرته بكفاءة وهيأت له الظروف للتغلب على واقع مرير قاسٍ وظروف ولا أحلك أو أسوأ من ذلك..!!