هل ارتدت بالفعل هذا البنطلون الأسود أم أنه رُش عليها؟! هذا السؤال المتدبر في الخلق طرأ على ذهني حينما رأيت الآنسة (م) لأول مرة بأروقة إعلام جامعة القاهرة، كانت مهذبة بيضاء بشعر ذهبي من سوهاج، وأثناء محاضرة مملة وبصف خلفي، أفضت لي ذات مرة بأنها محجبة في الصعيد وسافرة بالقاهرة!!.
ولما اشتد علينا الملل أخرجت لي من محفظتها صورها بالحجاب هناك، تحت وطأة أساطير العفة الافتراضية، كانت تخلع الإيشارب أو ترتديه حسب اتجاه القطار من أو إلى باب الحديد!! تلك الحكاية المنسية في سندرة الذاكرة انتبهت لوجودها فقط عقب دعاوى تظاهر خلع الحجاب.
التظاهر لخلع الحجاب دعوة متطرفة.. وهي الوجه الآخر المناهض بعنف لخطابات اليمين المتطرف وملصقاته على جدران المصريين "الحجاب فريضة - كرامتي من حجابي - أنا محجبة أنا عفيفة"، وهكذا عبر سنوات طويلة اختزلت كل الفضائل في "الإيشارب"، ووضع غير المحجبات ذهنيًا في "خانة المتاحات"!!
منذ إطلاق السادات يد عصابات اليمين المتطرف في الجامعات، والمجتمع المصري يُسخن بنار أفكارهم، وكان له عاجلًا أم آجلًا أن يفور بلا سيطرة حتى يستقر ذاتيًا، ومن هنا شهد المصريون بأسبوع واحد دعوة "الشوباشي" لمظاهرة خلع الحجاب وفتوى "برهامي" بجواز ممارسة الجنس مع الزوجة دون رضاها!!، للفوران وجوه كثيرة، وأقساها لم يأت بعد!!
الحجاب جزء من قضية الحرية.. وهذا الشعب ما زال يناضل من أجل حرياته، والمرأة المصرية ما زالت تحارب ثقافة الحرملك، أعمى البصيرة من يُنكر أن الحجاب يُفرض على أعداد ليست هينة من المصريات بسلاح القهر المجتمعي، ومن هنا اندلع "التمرد الصامت" للمحجبات عبر الملابس الضيقة والماكياج الصارخ، أو خصلات الشعر المتروكة للانسدال عمدًا من أسفل "الإيشارب"، أو الالتفاف على الشكل التقليدي للحجاب بلفة أسبانية تحرر الرقبة، أو حتى اختيار صورة مستعارة لأنثى شقراء للحساب الشخصي على "فيس بوك"!!
نحن بحاجة إلى جراحة دقيقة بالثقافة المجتمعية، الحجاب لا يُفرض بالقوة وحريته لن تُنتزع بالتظاهر، وإن كان من الدين فلا إكراه في الدين!!
بعيدًا عن الصخب الدائر.. هل بـ"الإيشارب" نستر المرأة؟!، سؤال إجباري لمجتمعات غرقت في الازدواجية، وقبل أن تكون الإجابة الآلية بـ"نعم"، من المهم إدراك أن الكفاح الليلي والإنتاج المصور الكثيف لـ"العناتيل" العرب والمصريين أجبر صناع الجسد في العالم على استحداث تصنيف لنا تحت مسمى HIJAB أو "حجاب"!!
وحين أسأل: لماذا أغلب ضحايا "العناتيل" من المحجبات؟!، هذا الاستفهام أبدًا لا يمس الدين أو التدين أو الحجاب، بل يدين مجتمعات كل من فيها صار يحارب في معارك خاطئة، ثقافات تعمدت مواراة الزبالة أسفل السجادة كي تثبت أن الصالة نظيفة!! من الأولى ستر العقل بالعلم والروح بالمعرفة، لأن الاكتفاء بحجب الجسد نهارًا -أبدًا- لن يستر عليه ليلًا!!
في النهاية، ولما بلغ ملل المحاضرة أشده، اعترفت لي الآنسة (م)، بأن خُطّابًا كثيرين تقدموا للزواج منها، لكنها ولحياتها المزدوجة بين مدينتين ترفضهم جميعًا، من بسوهاج يريدونها محجبة كما عرفوها هناك، ومن بالقاهرة طلبوها كما هي بشعرها الذهبي، ثم تخرجت الآنسة (م) ولم أعرف عنها شيئًا، فقط عندما تذكرت حكايتها، بحثت عنها على "فيس بوك" عقب مرور 15 عامًا، لأعرف مصيرها، وجدتها Lives in Sohag، وقد وضعت صورة افتراضية لفتاة حزينة تجلس على شاطئ بحيرة وقت الغروب.