أحسن الرئيس «السيسى» حين علّق على الجدل المثار هذه الأيام حول موضوع «تجديد الخطاب الدينى»، وطالب من يتصدى لهذه القضية بالحذر والوعى والاستنارة، بعد أن لاحظ القلق الذى بدأ ينتاب الكثيرين جراء الأفكار التى يطرحها من يزعمون أنهم يقومون بهذه المهمة، ويظهر فيها قدر كبير من الشطط والمغالاة التى تتجاوز تنقية كتب التراث وتحرير العقل المسلم من الأفكار والمفاهيم التى تنطوى على مغالطات إلى الاشتباك مع بعض الثوابت الدينية المنصوص عليها قرآنياً، سواء ما تعلق منها بحجاب المرأة، أو ما اتصل بتصورات المسلم عن الجنة والنار، كما حددها النص القرآنى.
من يتصدى لتجديد الخطاب الدينى لا بد أن يتمتع بالحذر، وحدة البصر، ليميز بين الثوابت العقيدية التى تتأكد من خلال آيات قرآنية قاطعة الدلالة، وبين ما تحتشد بها الكتب التى أنتجها بشر مثلنا، يخطئون ويصيبون، من أفكار، تقتضى الموضوعية أن نقيمها فى إطار السياق الذى أنتجت فيه من ناحية، وأن نحتكم إلى القرآن الكريم كمعيار للحكم عليها، وكأساس لتحديد ما يمكن قبوله أو رفضه منها، من ناحية أخرى. وإحقاقاً للحق فقد أصيب البعض خلال الأسابيع الأخيرة بنوع من عمى الألوان، الذى عطل أعينهم عن التفرقة بين بعض الأمور الثابتة بنصوص القرآن، مثل مسألة حجاب المرأة، وغيرها من الأمور المتصلة بقضايا التراث، وبدلاً من أن يشغل هؤلاء أنفسهم بقضايا تصب إيجابياً فى حياة المرأة المصرية، مثل التخلص من الأمية، وجدناهم يحشدون جهودهم فى الدعوة إلى نزع «الطرح»، وكشف «الشعور»، زاعمين أن ذلك هو المدخل لتجديد العقل الدينى المسلم!.
إننى أستطيع أن أتفهم إحساس هؤلاء بأن تحرير العقل المصرى من بعض الأفكار المتكلسة و«المتجبسة» بداخله تستلزم نوعاً من الصدمة، لكن هذه الطريقة أدت -كما أدرك الرئيس فى كلمته بالكلية الحربية- إلى إحساس بالخوف لدى المصريين، الأمر الذى أشار إلى أن من يعتمدون على هذه الطريقة فى تجديد الخطاب الدينى أو إصلاحه لا يتمتعون بالوعى الكافى والفهم العميق للمزاج المصرى الذى يتعكر بمجرد الإحساس بأن هناك من يسعى إلى المساس بثوابته القرآنية. ويقدم هؤلاء من حيث لا يدرون خدمة لجماعة الإخوان وغيرها، عندما تخرج كوادرها إلى المواطنين البسطاء ليقولوا لهم: ألم نقل لكم إن قضيتهم ليست فى التخلص من الإخوان، بل فى النيل من الإسلام؟!.
الاستنارة مطلوبة بإلحاح أيضاً، ونحن نتصدى لإصلاح الخطاب الدينى، فالتراث غثه غث، وسمينه سمين، بمعنى أن الحكم على التراث بالإعدام أو بالحرق أمر لا يقره عاقل، فأمام الكثير من الأفكار والمفاهيم المغلوطة التى تتناقض مع ثوابت القرآن داخل بعض كتب التراث، هناك أفكار كثيرة تستحق الالتفات إليها والاستفادة منها، مثل بعض الأفكار التى أنتجها «المعتزلة»، ورغم ندرة ما وصل إلينا من نتاج رواد هذه الفرقة، فإنه يشتمل على الكثير من الأفكار المضيئة والعقلانية التى يمكنها تعديل الكثير من المفاهيم التى تتسكع فى العقل المسلم. ويبقى فى الختام ضرورة ألا يتركز جهد تجديد الخطاب على خدمة السلطة، لأن الهدف منه هو خدمة المسلمين، وألا يتحدد سقف زمنى معين -حدده وزير الأوقاف بعشر سنوات- لهذه الجهود الإصلاحية، لأن تجديد الخطاب لا يتم بقرار سيادى، بل بإحساس من يعيشون عليه بأنه يستحق المراجعة.