ألقيت خلال الأسبوع الأول من أبريل الحالى عدة محاضرات فى ثلاث جامعات أمريكية كبرى هى جامعات «إم آى تى، وهارفارد، وتفتس» فى مدينة كمبريدج الأمريكية، وكذلك فى مؤتمر تنمية أفريقيا الذى نظمته مدرسة كيندى بجامعة هارفارد الأمريكية. وفى هذه المحاضرات قمت بعرض موجز عن هيدرولوجية حوض النيل، فشرحت أنّ دول حوض النيل الإحدى عشرة تتباين فى ظروفها المائية ما بين دول رطبة مطيرة مثل الكونغو وأوغندا وتنزانيا وجنوب السودان وإثيوبيا، ودول أخرى رطبة ولكنّها أقل مطراً مثل كينيا ورواندا وبورندى، ودولتين صحراويتين هما مصر والسودان. وأنّ كمية الأمطار فى مصر لا تزيد على مليار متر مكعب فى السنة، بينما تصل إلى 700 مليار متر مكعب على الجزء الواقع فى حوض النيل فى إثيوبيا، هذا عدا الأمطار الساقطة على الأحواض الأخرى هناك، وحوالى 800 مليار متر مكعب على مساحة الحوض الواقعة فى دول الهضبة الاستوائية، ويسقط على الأقل 600 مليار متر مكعب من الأمطار على جنوب السودان وحدها. ومصر الصحراوية تعتمد على مياه النهر بشكل كامل عبر التاريخ، وانضمت إليها السودان مع بداية القرن الماضى خاصة بعد بناء الانجليز لسد سنّار وإنشاء مشروع الجزيرة للزراعات المروية. أما بقية دول الحوض فهى تعتمد كلياً على مياه الأمطار فى النشاط الزراعى والشرب والتنمية الاقتصادية.
ونهر النيل بالرغم من كونه أطول أنهار العالم فإنه شحيح على سكانه، فالمتوسط السنوى لتدفق مياهه عند أسوان لا يزيد على 4-5% من الأمطار الساقطة على الحوض بمتوسط سنوى 84 مليار متر مكعب، تتقاسمها مصر والسودان على ضوء اتفاقية 1959. وأنّ 85% من مياه نهر النيل تأتى من الهضبة الإثيوبية وحدها، والباقى يأتى من الهضبة الاستوائية بينما لا تأتى أى مياه من جنوب السودان الذى تنتشر فيه مياه النهر على شكل مساحات هائلة من البرك والمستنقعات يفقد معظمها عن طريق البخر والباقى بالتسرب إلى المخزون الجوفى. وقد أوضحت الدراسات الحديثة أنّ التأثيرات السلبية للتنمية المائية فى الهضبة الإثيوبية على إيراد النهر لمصر، كبيرة جداً ومؤثرة وتصل إلى 90%، أى أنه إذا احتجزت إثيوبيا 10 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً يقل إيراد النهر السنوى عند أسوان بحوالى 9 مليارات متر مكعب. أمّا التأثيرات السلبية للتنمية فى الهضبة الاستوائية على إيراد النهر لمصر لا تتعدى 10%، وبمعنى آخر أنّ التأثيرات السلبية للمشاريع المائية فى الهضبة الإثيوبية على مصر تصل إلى تسعة أمثال آثار مشاريع التنمية فى الهضبة الاستوائية، وهذا هو سبب الحساسية الشديدة لمصر تجاه السدود الإثيوبية، وهى أسباب فنية ومائية بحتة ولا دخل لها بأى صراع سياسى.
والأمر مختلف على الجانب الإثيوبى، فلدى إثيوبيا أسباب سياسية تغلب على الجوانب الفنية لملف حوض النيل. فقد كان هناك تنافس تاريخى بين مصر وإثيوبيا منذ أيام الخلافة العثمانية وما تلاها أثناء الأسرة العلوية من امتداد رقعة مصر فى أفريقيا لتشمل سواحل الصومال وإريتريا والسودان وجنوب السودان وأجزاء من أوغندا حتى شواطئ بحيرة فيكتوريا. وهذا الجزء من التاريخ المصرى لا يتم تدريسه بالعمق الكافى فى المدارس المصرية كجزء من تجاهل ثورة يوليو 1952 إنجازات العصر الذى سبقها، مما أدى إلى جهل معظم المصريين وبمن فيهم المثقفون بتفاصيل هذه الحقبة الزمنية من تاريخ مصر. وعلى الجانب الآخر نجد أنّ الإثيوبيين والسودانيين يحفظون تاريخ هذه الحقبة عن ظهر قلب وبما فيها من إيجابيات وسلبيات. وإثيوبيا دولة حبيسة ليس لها منفذ بحرى، ويعود منشأها إلى أعلى الهضبة الإثيوبية ويتكون شعبها فى الأساس من الإثنية الأمهرية والإثنية التيجرانية وكلاهما يدين بالمسيحية. وحسب الكتاب المقدس الإثيوبى «كبرا نجشت» فإن ملكة الحبشة ماكيدا هى التى تزوجت من النبى سليمان ملك أورشليم، وأنجبت منه الملك منليك (ليست ملكة سبأ اليمنية بلقيس) والذى جاء من نسله ملوك الحبشة من الجنس الأمهرى، مما أعطى قدسية لحكام إثيوبيا وأعطاهم ارتباطاً عضوياً بإسرائيل. وإثيوبيا الحديثة يعود إنشاؤها إلى الملك منليك الثانى (1889-1913)، الذى نجح فى ضم أقاليم عفار وأوجادين الصومالية الإسلامية، وإقليم أوروميا الأفريقى، وإريتريا، وذلك على أطلال الدولة المصرية وبعد احتلال إنجلترا لمصر عام 1882، وثورة المهديين على الجيش المصرى فى السودان، وانسحاب الجيش المصرى إلى وادى حلفا بالسودان. وكانت إثيوبيا تستخدم الخطاب الدينى لكسب تعاطف أوروبا المسيحية، مرددة أن إثيوبيا جزيرة مسيحية يحيط بها المسلمون الأعداء من كل جانب. ويعتقد القادة الإثيوبيون أن مصر دائمة الدعم لمسلمى إثيوبيا وكذلك لدولتى إريتريا والصومال لإثارة القلاقل فى إثيوبيا ولمنعها من بناء سدودها على النيل الأزرق. وكانت بريطانيا العظمى قد عقدت عدة اتفاقيات حدودية فى حوض النيل أهمها اتفاقية 1902 مع إمبراطور إثيوبيا منليك الثانى، لترسيم حدودها مع السودان ولتنظيم استخدامات مياه النيل، والتى تعهدت فيها إثيوبيا بعدم بناء أى منشأ مائى على النيل الأزرق وعلى السوباط إلا بعد موافقة السودان وبريطانيا. وهناك أيضاً الاتفاقية الحدودية 1929 بين بريطانيا العظمى ومصر، تنص على عدم قيام دول الهضبة الاستوائية والسودان ببناء أى منشأ على النيل الرئيسى والنيل الأبيض وفروعه وعلى البحيرات الاستوائية إلا بعد موافقة مصر. وكانت هذه الاتفاقيات تسبب ألماً لدى الإثيوبيين، فقد كانوا يقرضون الشعر والأغانى الشعبية المستهجنة للنيل الأزرق لأنهم لا يستفيدون من تدفق مياهه التى تذهب إلى مصر ويتركهم فى الفقر والحاجة، بينما يقوم المصريون بقرض الشعر لتخليد هذا النهر ويقدسونه كمصدر للحياة. وظهرت هذه الصراعات مرة ثانية بين البلدين بعد ثورة 1952 المصرية بعد إعلان «عبدالناصر» عن مشروع السد العالى، فقامت إثيوبيا بتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة، مؤكدة أنّها لا تقر بأى اتفاقيات تاريخية سابقة وأنها لها السيادة المطلقة على مواردها المائية، وقامت بفصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية بعد ارتباط تاريخى امتد إلى أكثر من ألف وستمائة عام. وبعدها قامت دول الهضبة الاستوائية بعد الاستقلال فى الستينات من القرن الماضى برفض اتفاقية 1929 والمطالبة بحصص مائية.