فى عام 2008 دُعيت للمشاركة فى ندوة نظمها المجلس القومى لحقوق الإنسان للتحدث عن تأثير برامج التوك شو فى المجتمع بصفتى الصحفية والمهنية كأحد الكتّاب والمعدين لواحد من أشهر تلك البرامج وقتها. أتذكر أننى حذرت فى تلك الندوة الهامة من ثقافة «عود الكبريت المشتعل» -التى حرصت بكل ما أوتيت من قوة على مقاومتها حتى لو تطلب الأمر تركى لعملى- فقد تعامل الإعلام وقتها مع الأحداث فى المجتمع بمنطق السبق الإعلامى والجرى وراء أى عود كبريت مشتعل، حتى لو لم يحمل ما يفيد. فإذا ما انطفأ وخمدت ناره، تواروا واختفوا وتباعدوا عن الأنظار لا يعنيهم أثر ما قدموا ولا فهم حقيقة ما حدث. وضربت مثلاً يومها بالعديد من التغطيات الخاصة بوقائع، مثل سفاح المعادى، الذى قامت الدنيا ولم تقعد بسببه لمدة أسبوع، ثم صمت الجميع وكأن شيئاً لم يكن رغم عدم القبض على السفاح الذى قبض عليه بعد عامين! ومثلاً آخر بتلك الطفلة هند ذات الاثنى عشر عاماً، التى حملت وأنجبت من واقعة اعتداء اتهمت فيها أسرتها نجاراً شاباً باغتصابها، ثم أثبت تحليل «الدى إن إيه» كذب التهمة فى المحكمة، فصمت الجميع أيضاً وكأن شيئاً لم يكن!
وهكذا كان إعلامنا يسير منذ بداية الألفية الثالثة بدعم من نظام أراد إظهار احتوائه للحريات تحت ضغوط دولية تطالبه بالإصلاح، كما أراد زيادة جرعة التنفيس لشعب فشل فى تحسين الخدمات له. وكانت النتيجة اتساع فى رتق الثوب الإعلامى لوجوه توحشت إعلانياً لا إعلامياً، ومهنة فقدت الهدف منها حينما سلمت مفاتيح أبوابها لشركات الإعلان المرتبطة برجال الأعمال، وما يحملونه فى جيوبهم من توكيلات منتجات عالمية باتت صاحبة الصوت الأعلى فى اختيار نجم الإثارة الليلية على الشاشة. ولم يختلف الأمر كثيراً فى الصحافة الخاصة للأسف. بينما إعلام الدولة يتراجع للخلف بخطوات تحت قيادة من لم يتفهموا احتياجات الوطن والمواطن، فكان أداؤهم مذبذباً بين فهم خاطئ للتبعية للحكومة لا الدولة، وبين محاولة مجاراة الصحف الخاصة بفرقعات إعلامية قميئة، أذكر منها تحقيق قناة الجزيرة الغث بالأهرام فى عام 2010.
ورغم قيام ثورتين فى مصر يا سادة، فإن إعلامنا ما زال يعتمد ثقافة الإعلان مدفوع الأجر لكل من يحمل عنوان الصوت العالى والتهييج والإثارة وإشعال أعواد الكبريت، حينما لا يجدون من يشعلها. لا يهم ما يواجهه الوطن من أزمات ولا ما يعانيه المواطن من مخاوف ولا قلة وعى، ولا يعنيهم أسلوب عرض الحقيقة ولا الوصول لحلول. المهم حالة الاستنزاف الذهنى لمجتمع يعتمد غالبيته للأسف على الثقافة المرئية فى الحصول على المعلومة، دون سعى لتأكد أو فهم أو تدقيق. ويزيد الاستنزاف مع سيطرة أخلاق الشارع على إعلامنا فبات ساحة لتدنى الأخلاق إلا من رحم ربى، وهم قليل.
كنت أظن، وبعض الظن إثم، أن امتلاك رجال الأعمال لقنوات الإعلام المرئية والمكتوبة جزء من تدوير رؤوس أموالهم ولكننى دهشت حينما علمت خطأ الظن، مع أرقام مديونياتهم جميعاً. ليطرح السؤال ذاته وبقوة إذا كانوا يخسرون المال ويعانون غلبة الدين ولا يجدون ما يسددون به ما عليهم للديانة، فلماذا افتتاح القنوات الجديدة والإنفاق عليها بحملات إعلانية تفوق ما بها من مضمون؟ ولماذا إنتاج برامج مكلفة بالملايين تتوقف بعد حلقتين أو ثلاث من بدئها لفشلها وضحالة مضمونها؟ ولماذا الاتجاه لاحتكار السوق الإعلانية فى مصر من كيان واحد لكافة القنوات والصحف رغم التعثر فى سداد مستحقات تلك الوسائل وتأخر الشيكات بمبالغ جاوزت المليار؟! ولماذا يهاجم مالكو الصحف مؤسسات الدولة فى العلن، ثم يسعون لاسترضائها فى الخفاء؟ وتزداد دهشتى مع ما يتردد فى الكواليس من سيطرة رجال أعمال ذوى نفوذ دولى لابتلاع الساحة الإعلامية بشراء أسهم الصحف والقنوات؟! وأتساءل: هل هذا ما يسمونه غسيل الأموال؟ أم أنه نظام الاحتفاظ بسبل الضغط على الدولة إن لم تحقق مطالبهم؟
لذا أكرر ندائى لعودة إعلام دولة -مرئياً ومسموعاً ومقروءاً- تتصدره الكفاءات لمنع إشعال الحرائق فى ثوب بات مثقوباً.