ثورتان ومئات الضحايا، كل هذا ليس كافياً لإقناع النظام الحاكم والشعب أيضاً بأن الفوضوية والعشوائية لا تبنى دولة، كل شىء هنا كما هو، لا أحد يريد التغيير، ولا أحد يريد المستقبل، الشعار واحد للحاكم والمحكوم «سيبها على الله». ولكى ندرك صورة الحياة اليومية يمكننا فحسب أن نستعرض رحلة مواطن واحد يومياً منذ استيقاظه حتى وصوله إلى عمله.
نام المواطن المجهد فى الثانية بعد منتصف الليل، كان ساهراً كعادته مع الشلة أو أمام التليفزيون، وفى السادسة صباحاً، وقبل موعد استيقاظه بساعة، يصحو على صوت طرق أنابيب البوتاجاز المسروقة بمعرفة النظام. عادة لا يفطر المواطن فى بيته، يكتفى بكوب شاى، ويهبط السلم مسرعاً لأنه سيصل متأخراً إلى عمله كالعادة. يؤمن المواطن أن التوك توك هو سبب خراب الدولة والبلطجة، لكن لا توجد وسيلة مواصلات بديلة إلى «الموقف». وفى الطريق يمر على العمارات المخالفة والمتاجر المخالفة، وبسبب الطريق المتكسر يصل إلى الموقف مصاباً بالمغص.
فى «الموقف» مولد شعبى آخر: بلطجية وباعة سريحة وغبار وضجيج، يجرى حتى يلحق لنفسه مكاناً فى الميكروباص، ويرضى أن يحشر نفسه على «حتة خشبة» خلف مقعد السائق.. يتحرك الميكروباص بسرعة جنونية بينما السائق يتمايل مع روائع «أوكا وأورتيجا»، ثم يقدم هذا السائق فاصلاً من أكروبات القيادة، ثم يهدئ سرعته قبل الكمين. وفى الكمين يستوقف رجال المرور الميكروباصات وأصحاب السيارات، بينما يفسحون الطريق للتوكتوك لأنه لا يحمل رخصة وبالتالى لا معنى لاستيقافه، المهم أن الكمين يجب أن يكون فى مكان صعب بحيث يعطل المرور. بعد قليل يمر على بنزينة «وطنية»، حيث تصطف الموتوسيكلات والتكاتك وعليها علم مصر ومزيج من أغنيات «أوكا وتسلم الأيادى وبشرة خير»، ومن البنزينة التابعة للقوات المسلحة يحصلون على البنزين المدعم، وفى الطريق يمر على طابور الخبز ثم جمهرة الأنابيب، ويملأ عينيه من أهرامات القمامة التى تزين كل شارع.
يصعد الميكروباص الطريق الدائرى، المرصوف حديثاً، هنا دولة المجانين، الكل يجرى والكل يغرز. أخيراً يهبط من الطريق الدائرى، إلى طريق آخر متوقف تماماً، دون سبب كالعادة. يصل محطة المترو، يصعد مرهقاً سلم المحطة المزدحم بالباعة، يشترى تذكرة، وفور وصول القطار يندفع مع الحشود فى اتجاه باب النزول ليصد الحشود التى تريد النزول، وينجح فى مهمته، ويجد مكاناً فارغاً فى العوارض الـ«ستانلس ستيل» داخل العربة، ليتشعبط فيها منتشياً بانتصاره ويجهز نفسه لمعركة النزول، حيث يستجمع قواه ليصد، مع حشود النازلين، حشود الصاعدين.
يهبط فى المحطة وهو يسب ويلعن أولئك الذين داسوا على قدميه أثناء نزوله. يصعد سلم المحطة إلى الشارع متثاقلاً. ويذهب إلى مقر عمله. يجلس خلف شباك خدمة المواطنين، يباغته أحدهم بالسؤال «اتأخرت ليه يا أستاذ؟»، يفور غضبه ويرد «وانت مال أهلك؟ طب والله العظيم تلاتة ما أنا شغال، وادى أم الشباك أهوه».