يساهم بعض المسئولين فى أحيان فى زيادة الشائعات بسبب أدائهم الركيك. أقول ذلك بمناسبة الشائعات التى ارتبطت بتأثير غرق «صندل الفوسفات» فى نيل مصر بمنطقة الصعيد على مياه الشرب. فمنذ الوهلة الأولى بادر المسئولون إلى التأكيد على أن المياه لن تتضرر جرّاء الحادث، وبسرعة البرق أعلنوا أنهم اختبروا العديد من العينات فى مواقع متنوعة، وأثبتت النتائج أنها صالحة تماماً للشرب، وعندما شهدت الشرقية مئات الحالات للتسمم جرّاء تناول المياه، هرول كل المسئولين إلى نفى أى صلة بين «مياه الحكومة» والتسمم و«لصقوا» التهمة، كما حكيت لك منذ ثلاثة أيام، بـ«الجراكن»، ولم ينسوا بالطبع أن ينفوا وجود أى صلة بين «صندل الفوسفات» الغارق وتسمم المياه فى الشرقية.
المسئولون الحكوميون لدينا يعملون بنفس النظريات القديمة التى شوهت حياة المصريين فى عصر «المخلوع». ومن بينها نظريات: «كله تمام»، و«لا صحة إطلاقاً»، و«الحكومة ليست مسئولة». فأمام أى مشكلة يحاول المسئول الحكومى نفى وجود المشكلة من الأصل، ويؤكد باستمرار أن «كل الأمور تحت السيطرة»، أو بعبارة أخرى «كله تمام». وعند هذه الجملة ينطلق إلى الجملة التى تحدد نظريته الثانية فى إدارة المواطن، نظرية «لا صحة إطلاقاً»، فلا صحة إطلاقاً لأى أمر ينال من أداء الحكومة أو يُثبت عليها الإهمال. وفى هذا السياق تستطيع أن تفهم كلام الحكوميين عن أنه لا صحة إطلاقاً لما يشاع عن تسمم مياه الشرب فى الشرقية أو غيرها، وأن المشكلة لم تتجاوز الأزمة الطارئة الناتجة عن جراكن المياه المعبأة بماء إحدى المحطات غير الخاضعة للرقابة. تخيل مواطنى الشرقية يدفعون «فلوس» فى المياه التى تسممهم، ويتركون المياه النقية التى تخرج من «صنبور الحكومة» بالمجان، وينقلنا هذا الحديث إلى نظرية «الحكومة ليست مسئولة». فالمواطن دائماً هو المسئول!
أستطيع أن أستوعب أن الحكومة تريد طمأنة الناس، فى ظل حالة القلق التى تنتابهم نتيجة تداول الشائعات، لكن المبالغة فى الطمأنة أحياناً ما تكون مدعاة للقلق. والسبب الرئيسى فى سهولة تصديق المواطن المصرى للشائعات يرتبط بتاريخ الكذب الذى جرّبه مع الحكومة، لأنها ببساطة لا تعترف بأخطاء، لأنها ترى أن أداءها سليم على طول الخط، وحتى إذا اعترفت بوجود مشكلة معينة، فإنها تسعى إلى نفى مسئوليتها عنها لتعلقها فى رقبة أى قط! والكوميديا أن الحكومة التى تؤدى على هذا النحو توجه لومها إلى المواطن الذى ينساق وراء الشائعات، رغم أنها العامل الأهم فى خلق المناخ الخصب والمناسب لنمو وسريان الشائعة.
لعلك علمت أنه بعد ساعات من النفى الحكومى الأكيد لوجود أى تأثير سلبى لصندل الفوسفات الغارق على مياه الشرب، رصد مركز الحريات والحصانات لحقوق الإنسان انتشار شائعات بمراكز المنيا بوصول الفوسفات لمياه الشرب بالمحافظة، وتلقى عدة اتصالات تليفونية من أهالى مراكز بنى مزار ومطاى وملوى وأبوقرقاص، تفيد ظهور سيارات و«تكاتك» تجوب القرى وتطلق نداء يحذر المواطنين من شرب المياه لأنها مسممة على حد قولهم. أنا أصدّق الخبراء الذين نفوا وجود علاقة بين «الفوسفات» الغارق وتلوث مياه الشرب، لكن «صنبور» الحكومة الذى لا يعتمد على الشفافية والمصارحة هو الذى يُغرق أى حقائق فى بحار الكذب، لتتحول فيما بعد إلى «أنهار شائعات»!