فى حالات التحول الديمقراطى ظهرت شخصيات كمانديلا بحنوب أفريقيا وفاونسا ببولندا ونهرو بالهند، كان دورهم تاريخياً لأنهم اهتموا بأمر محورى هو وضع أسس الدولة الحديثة بنظامها الديمقراطى الرشيد ومؤسساتها الفعّالة. اتسم هؤلاء بانفتاحهم على الجميع وإدراكهم أن الأولوية هى تحقيق المصلحة العامة للوطن كله، وإيمانهم بضرورة مشاركة الجميع فى مرحلة البناء، وذلك حسب رؤية وأجندة وطنية واضحة. هؤلاء لا يزال ذكرهم خالداً فى دولهم وفى كتب السياسة كمؤسسين ورجال دولة.
أتصور أننا نحتاج هذا النوع من الرؤساء، فاستناداً إلى دروس التجارب الأخرى من جهة والى أولويات مصر من جهة أخرى، نحتاج أولاً إلى اقتناع الرئيس مرسى بدوره التأسيسى هذا، ثم قيامه بوضع رؤية كلية واضحة المعالم والأهداف والوسائل، يشترك فى وضعها الخبراء والسياسيون، ويتم إيصالها للشعب بشكل مبسط وباستخدام كافة طرق التواصل. وتتضمن الرؤية مجموعة من الأطر الدستورية والقانونية والمؤسساتية (فى شكل مؤسسات وآليات وضمانات ومحفزات وعقوبات) تضمن ترسيخ الأسس الستة لدولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة (وتفكيك عقلية الاستبداد والاستسلام)، وهى: ترجمة أن الشعب هو مصدر السلطة ومشارك حقيقى فى صنع القرارات على كافة المستويات، ترسيخ مبدأ حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات، إعمال مبدأ المواطنة الكاملة والمتساوية للجميع، بناء حياة سياسية سليمة تضمن تعددية حزبية حقيقية وانتخابات ديمقراطية وحكومة مستقرة ومعارضة قوية، مأسسة أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية والمخابراتية لضمان مهنيتها وخضوعها للقانون وتفعيل كافة أنواع الرقابة البرلمانية والداخلية والمستقلة على أدائها، وبناء الإنسان المصرى فكرياً وثقافياً وتعليمياً وتنمية ثقته بالسياسة بمفهومها الصحيح القائم على الإصلاح والإعمار وليس الانتهازية والوصولية.
فى واقع الأمر، تمدنا التجارب الأخرى بعشرات الآليات والضمانات والمحفزات لتحقيق هذه الأمور. لكن يجب علينا بذل كل الجهد الممكن لابتكار آليات أخرى يتطلبها واقعنا. فمن آفاتنا الأساسية أن بعضنا لا يستخدم عقله إلا للنقل من الآخرين، وبعضنا الآخر لا يؤمن أصلاً بأن مشاكلنا قابلة للحل، ويعتقد أن كافة الحلول ستفشل. لا ينظر هؤلاء إلا تحت أقدامهم ولا يقرأون سنن الكون وليس لديهم قدرة على رؤية النظرة الكلية للأمور ولا على المقارنة. كانت حال تركيا والبرازيل وكوريا أسوأ من مصر، لكن توافر لها قادة ونخب استمعوا للخبراء وفهموا سنن الكون وامتلكوا إرادة صلبة وأفقاً منفتحاً ورؤية محددة وعزماً لا يلين، فنجحوا.
بالطبع أمام الرئيس مرسى عدة مهام عاجلة أخرى عليه التصدى لها كمشكلات الاقتصاد والأمن والنظافة. لكن لا يمكن الفصل بين هذه المشكلات وبين ضرورة إقامة المؤسسات والآليات التى تعالج أسباب هذه المشكلات وتمنع عودتها. ويقتضى الأمر تقسيم العمل وتشكيل فرق عمل متجانسة ومتفرغة تماماً للتصدى للنوعين معاً. وقد يساعد الرئيس أن يُحرر نفسه من ضغوط الانتخابات التالية ويستخدم مدته الرئاسية الواحدة بالكامل لزرع أسس الدولة الحديثة تاركاً المجال لرؤساء آخرين لاستكمال الطريق، عندها سيكتسب صفة الرئيس المؤسس للجمهورية الثانية. والله أعلم.